❷ سارعوا إلي ربكم وجنة

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

الاثنين، 2 مايو 2022

كتاب آثار صفة الرحمة وكتاب إن ربي قريب مجيب لماجد بن أحمد الصغير

 

كتاب 1-آثار صفة الرحمة ماجد بن أحمد الصغير

الحمد لله رب العالمين . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه .

أما بعد :

فإن من عرف ربه سبحانه وتعالى بالرحمة الواسعة لابد أن يحصل له عدد من الخيرات والثمرات والآثـار ...

ومن تلك الآثــار :

أنه على قدر حظ الإنسان من هذا الخلق الكريم ترتفع درجته عند الله ؛ ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام أرحم الناس ، وكان خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم أوفرهم نصيباً من هذا الخلق حتى كانت رسالته رحمة للعالمين قال الله سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )، (فبما رحمة من الله لنت وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) . وقد لازم هذا الخلق في أشد الأوقات، فلما آذاه أهل مكة وكذبوه وأخرجه أهل الطائف ورموه بالحجارة ؛ خرج كسير النفس ، مجروح الفؤاد يتلمس الفرج، جاءه ملك الجبال وعرض عليه إهلاكهم فقال صلى الله عليه وسلم : (( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)). [1]

رحمة لم تعرف البشرية نظيراً لها . والمؤمن الصادق له نصيب من هذه الصفة على قدر حبه لنبيه صلى الله عليه وسلم واتباعه له وأولى الناس بالرحمة الوالدين خاصة عند الكبر :  ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً )، ثم ضعفاء المسلمين أيتاماً وأرامل ، فرحمة هؤلاء باب من أوسع الأبواب التي تنال بها رحمة الله . وإذا كانت امرأة بغي دخلت الجنة في كلب سقته شربة ماء فكيف بالإنسان المؤمن الكريم على الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث قال كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك ) [2]. لقد كان صلى الله عليه وسلم رحيم القلب يرق للضعفاء ويرحم حتى الدواب والحيوانات ويوصي بها ، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : ( إني لأرحم الشاة أن أذبحها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن رحمتها رحمك الله ) . [3]

ومن الآثـار:

أن الرحمة تفتح أبواب الرجاء والأمل ، وتثير مكنون الفطرة ، وتبعث على صالح العمل ، وتغلق أبواب الخوف واليأس ، وتشعر المؤمن بالأمن والأمان ؛ لأنه سبحانه الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ، ولم يجعل في الدنيا إلا جزءاً يسيراً من واسع رحمته يتراحم به الناس ويتعاطفون ، وبه ترفع الدابة حافرها عن ولدها رحمة وخشية أن تصيبه [4].

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (جَعَلَ الله الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ )[5]. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً ، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً ، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ )[6].

ومن الآثــار :

الرحمة بالمخطئين والمذنبين بالأخذ بأيديهم إلى طريق الله بالموعظة الحسنة باللطف لا بالعنف والتعامل معهم على أنهم غرقى محتاجون من ينتشلهم فلا يتركهم يتعرضون لعذاب الله . ومن ثَّمّ النظر إليهم بعين الرحمة لا الشدة والنقمة ، ومعاملتهم معاملة الرُحماء لا معاملة أهل الكبر والازدراء والخيلاء .

ومن الآثــار :

أن المؤمن مع تقربه إلى الله بكل عمل ، وتوقيه لكل ذنب إلا أن قلبه خائف وجل من الآخرة ; متطلع إلى رحمة ربه وفضله . فهو على كل أحواله متطلع إلى رحمة الله وفضله ;مع مراقبته لله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة . (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9) . والأخيار من خلق الله ، من الملائكة ، أو الجن ، أو الإنس يحاولون بكل طريق أن يتقربوا إلى الله ، وأن يتسابقوا إلى رضاه ، يرجون رحمته ويخافون عذابه ، وقد كان بعضهم يدعو عزيراً ويأمله , وبعضهم يدعو عيسى ويرجوه ، وبعضهم يدعو الملائكة ويعبدهم ويسألهم , وبعضهم يدعو غير هؤلاء . . فأخبر الله عن أولئك جميعاً : بأن أقربهم إلى الله يبتغي إليه الوسيلة , ويتقرب إليه بالعبادة , ويرجو رحمته , ويخشى عذابه - وعذاب الله شديد يحذر ويخاف . ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) [الإسراء:57] حتى أولئك الذين يؤذون في سبيله هم على رجاء الرحمة لا على يقين منها ; ولا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ,والله غفور رحيم ) ...و إذا رجا المؤمن رحمة الله فإن الله لا يخيبه أبدا . . ولقد سمع أولئك النفر المخلصمنالمؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق , فجاهدوا وصبروا , حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة . وكلاهما خير . وكلاهما رحمة ..)[7] .

ومن الآثــار :

أن ينقطع المؤمن إلى الله تعالى وأن يعرض عما سواه عز وجل فيرتاح باله [8] ؛ فإن الرحمة بيد الله وحده فـ (ما يفتح اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) . وحين تستقر هذه العقيدة في قلب إنسان تتحول تصرفاته وتعتدل موازينه ؛ لأنها تقطعه عن كل قوة في السماوات والأرض وتصله بقوة الله . وتغنيه عن كل رحمة في السماوات والأرض وتصله برحمة الله . وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض، وتفتح أمامه باب الله .

يجد هذه الرحمة من يفتحها الله له فيكل شيء ، وفي كل حال , وفي كل مكان . . يجدها في نفسه ,ويجدها فيما حوله , حيثما كان , وكيفما كان ، ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان . . ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء , وفي كل وضع , وفي كل مكان ، ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان !

وما من نعمة - يمسك الله معها رحمته - حتى تنقلب هي بذاتها نقمة . وما من محنة –تحفها رحمة الله - حتى تكون هي بذاتها نعمة . . ينام الإنسان على الشوك - مع رحمة الله - فإذا هو مهاد . وينام على الحرير - وقد أمسكت عنه - فإذا هو شوك القتاد .

ويعالج أعسر الأمور - برحمة الله - فإذا هي هوادة ويسر . ويعالج أيسر الأمور – وقد تخلت رحمة الله - فإذا هي مشقة وعسر . ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام . ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار !يبسط الله الرزق - مع رحمته - فإذا هو متاع طيب ورخاء ; وإذا هو رغد في الدنياوزادإلى الآخرة . ويمسك رحمته , فإذا هو مثار قلق وخوف .

يمنح الله الذرية - مع رحمته - فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ,ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله . ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء , وسهر بالليل وتعب بالنهار !

ويهب الله الصحة والقوة - مع رحمته - فإذا هي نعمة وحياة طيبة , والتذاذ بالحياة . ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي , فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح , ويدخر السوء ليوم الحساب !

ويعطي الله السلطان والجاه - مع رحمته - فإذا هي أداة إصلاح , ومصدر أمن ,ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر . ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما , ومصدر طغيان وبغي بهما , ومثار حقد وموجدة على صاحبه مالا يقر له معهما قرار , ولا يستمتع بجاه ولا سلطان ,ويدخر بهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار !والعلم الغزير . والعمر الطويل . والمقام الطيب . كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال . . . مع الإمساك ومع الإرسال . . وقليل من المعرفة يثمر وينفع , وقليل من العمر يبارك الله فيه . وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة .

ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال .

وجدها إبراهيم – عليه السلام - في النار .

ووجدها يوسف - عليه السلام - في الجب كما وجدها في السجن .

ووجدها يونس - عليه السلام - في بطن الحوت في ظلمات ثلاث .

ووجدها موسى – عليه السلام - في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة , كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه .

ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور . فقال بعضهم لبعض: (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته).

ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار . .

ووجدها كل من آوى إليها يأساً من كل ما سواها . منقطعاً عن كل شبهة في قوة , وعن كل مظنة في رحمة , قاصداً باب الله وحده دون الأبواب [9].

ومن الآثــار:

إن المؤمن إذا علم أن الله إذا فتح أبواب رحمته لأحد فلا ممسك لها . ومتى أمسكها فلا مرسل لها . كانت مخافته من الله . ورجاء ه في الله .. إنما هي مشيئة الله . ما يفتح الله فلا ممسك . وما يمسك الله فلا مرسل .. يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك . ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك . (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده).

لو استقر هذا المعنى في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشخاص والقوى والقيم . ولو تضافر عليها الإنس والجن . وهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها , ولا يمسكونها حين يفتحها . . (وهو العزيز الحكيم). .

إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته . آية من القرآن تفتح كوة من النور . وتفجر ينبوعاً من الرحمة . وتشق طريقاً ممهوداً إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة [10].

قال عامر بن عبد قيس : أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي  ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده )  (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله )  ( وسيجعل الله بعد عسر يسرا الطلاق)  ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها هود ) [11] .

اللهم لك الحمد منزل القرآن هداية وزكاة وشفاء ورحمة للمؤمنين ...« لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمةً ، إنك أنت الوهاب » ، « رحمتك نرجو ، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين » .

* / كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا

17/4/1428


[1] رواه مسلم رقم (1420).

[2] متفق عليه : رواه البخاري ح 3143 و اللفظ له . ورواه مسلم ح 2245 بنحوه . كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه .

[3] رواه الحاكم ح 7562 . والحديث صححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/ 274 ح 2264.

[4] ينظر: فتح الباري 13/358 في معنى قول الحليمي : الرحمن هو مزيح العلل ، أسماء الله الثابتة في الكتاب والسنة ، للرضواني 2/7 ، بتصرف واختصار .

[5] رواه البخاري ح 5654 .

[6] رواه البخاري ح 6104 .

[7] ينظر: في ظلال القرآن تفسير آية الزمر رقم :9 ، والإسراء رقم: 57 ، البقرة 218 بتصرف كثير .

[8] ينظر : روح المعاني ، للألوسي 22 / 165 .بتصرف .

[9] ينظر : في ظلال القرآن ، تفسير قوله تعالى  (ما يفتح الله للناس من رحمة ..) سورة فاطر ، آية رقم : 2 .

[10] المرجع السابق نفس الموضع .

[11] الدر المنثور ، للسيوطي 7 / 5 .

المصدر :

العقيدة والحياة www.al-aqidah.com

تم تحميل هذه المادة من

موقع الكتيبات الاسلامية

www.ktibat.com

كتاب 2-إن ربي قريب مجيب

* بقلم/ ماجد بن أحمد الصغير

اللهم لك الحمد أنت المستعان على كل نائبة ، وأنت المقصود عند كل نازلة ، لك عنت وجوهنا وخشعت لك أصواتنا ، أنت الرب الحق ... وأنت الملك الحق ... وأنت الإله الحق .

أنت المدعوّ في المهمات ، وإليك المفزع في الملمات ، لا يندفع منها إلا ما دفعت ، ولا ينكشف منها إلا ما كشفت .

ونصلي ونسلم على أشرف رسلك وخاتم أنبيائك وعلى الآل والصحب ومن تبعهم بإحسان . أما بعد ؛ فإن من حكمة الله أن يبتلى عباده بألوان من الهموم والأمراض والمصائب ؛ ليسألوه ، ويقفوا بين يديه ، فيجدوا رباً غنياً غير فقير ، وقريباً غير بعيد ، وعزيزاً غير ذليل لأن الابتلاء يسوق الإنسان إلى ربه سوقاً ، يتوسل إليه ويدعوه فيجده ربه قريباً مجيباً فيعرف العباد له قدرته وكرمه ورحمته وحكمته . ذلك هو اسم الله المجيب : ( إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود:61] .

مجيب السائلين حملت ذنبي * وسرت على الطريق إلى حماكا

ورحت أدق بابك مستجيراً * ومعتذراً ... ومنتظراً رضاكا

دعوتك يا مفرج كل كرب * ولست ترد مكروباً دعاكـا

وفي خضم الحياة المادية يحتاج المؤمن إلى ملجئ يأوي إليه ، ومعين يعتمد عليه ، وقوي جليل يتقوى بقواه ، وعظيم كبير يحتمي بحماه ومفتاح ذلك الدعاء .

تسقط القوة ، وتعيا الحيلة فليس إلا الدعاء ...

تضيق الدنيا بأهلها حتى كأنها سم الخياط فليس إلا الدعاء .

بالدعاء تحل عقد المكاره ، ويفل حد الشدائد ، وبه يلتمس المخرج ، ومعه تفتح أبواب الفرج .

إن الدعاء معين من الخير لا ينضب ، ومدد من العون لا ينفد ؛ لأنه باب العطاء العظيم والله سبحانه يحب الداعين ولا يخيب السائلين !

إنه المُجِيب الذي يُقابِل السؤالَ والدُّعاء بالقَبُول والعَطاء .

إنه المجيب الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويغيث الملهوف إذا ناداه ، ويكشف السوء عن عباده ويرفع البلاء عن أحبائه .

كل الخلائق مفتقرة إليه ، ولا قوام لحياتها إلا عليه ، لا ملجأ لها منه إلا إليه ،وجميع الخلائق تصمد إليه وتعتمد عليه [1] ، ولكن الله حكيم في إجابته ، قد يعجل أو يؤجل على حسب السائل والسؤال ، أو يلطف بعبده باختياره الأفضل لواقع الحال ، أو يدخر له ما ينفعه عند المصير والمآل ، لكن الله تعالى يجيب عبده حتماً ولا يخيب ظنه أبداً كما وعد وقال وهو أصدق القائلين (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) [البقرة:186] ، وقال : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [غافر:60]

إنه الإله العظيم القريب المجيب ... يدعى لكشف الضر ؛ فترسل السماء ماءها وتخرج الأرض بركاتها وزهرتها ...

 

خرج رجل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فقال يا رسول الله : هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا . قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ، فقال : اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا . قال أنس : ولا والله مانرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئاً ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار . قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت .قال : والله مارأينا الشمس ستاً ، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائماً ، فقال : يارسول الله هلكت الأموال ، وانقطعت السبل فادع الله يمسكها . قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ، ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والجبال والآجام والضراب والأودية ومنابت الشجر . قال : فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس ) [2]. )

 

وفي كتاب ( الفرح بعد الشدة ) للتنوخي أن امرأة بالبادية ، جاء البرد فذهب بزرع كان لها، فجاء الناس يعزونها ، فرفعت طرفها إلى السماء ، وقالت : اللهم أنت المأمول لأحسن الخلف ، وبيدك التعويض عما تلف ، فافعل بنا ما أنت أهله ، فإن أرزاقنا عليك، وآمالنا مصروفة إليك . قال: فلم أبرح، حتى جاء رجل من الأجلاء ، فحدث بما كان ، فوهب لها خمسمائة دينار .

إنه الإله العظيم الكريم المجيب ... يدعى ويؤمل لصلاح القلب ، فتذهب عن النفوس شدتها ، وعن القلوب قسوتها، ويبتهل إليه لشفاء السقيم ومغفرة الذنب العظيم ، فيشفى المرض ويغفر الذنب .

إنه مجيب السائلين صاحب العطايا ، ومنزل البركات ...

 

وفي ساعات الاضطرار واليأس من كل قريب ، وانقطاع الأسباب عن كل مجيب فالله هو الذي ( يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) (النمل:62) .

أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب : (( المجابين )) عن الحسن رحمه الله أنه قال : كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يكنى أبا مغلق وكان تاجراً يتجر بمال له ولغيره يضرب به في الآفاق وكان ناسكاً ورعاً فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح . فقال له : ضع ما معك فإني قاتلك ! قال : فما تريد إلى دمي فشأنك والمال ؟ قال : أما المال فلي ، ولست أريد إلا دمك . قال : أما إذا أبيت فذرني أصلى أربع ركعات قال صلى ما بدا لك فتوضأ ثم صلى أربع ركعات فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال : يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعالاً لما تريد أسألك بعزك الذي لا يرام ، وبملكك الذي لا يضام ، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني ، يا مغيث أغثني ، يامغيث أغثني ، يا مغيث أغثني ، فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله ثم أقبل إليه ، فقال : قم ، فقال : من أنت بأبي أنت وأمي فقد أغاثني الله بك اليوم ، فقال : أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت فسمعت لأبواب السماء قعقعة ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب فسألت الله أن يوليني قتله . قال الحسن فمن توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروبا كان أو غير مكروب [3]. )

فإذا كنت في كرب وشدة فإن الفرج موصول بالدعاء فإنه سبحانه نعم المجيب ( ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ) ، ( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (الأنبياء:76) .

 

وإذا كنت في ضر ومرض وألم فلا تضن على نفسك بالدعاء فبه يكشف الضر وبه يزول : (وأيوب إذ نادى ربه أني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء:84) .

 

وإذا دفعت إلى شدة شديدة ، وخوف عظيم ، لا حيلة لك فيها، ، فالجأ إلى الصلاة والدعاء ، وأقبل على التضرع والبكاء ، وأسأل الله عز وجل تعجيل الفرج فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول : ( لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش الكريم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ) [4] .)

وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك بن عبدك بن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً فقيل : يا رسول الله ألا نتعلمها ؟ قال : بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها )[5] . قال ابن مسعود : ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء:88) )

 

وفي كتاب ( الفرج بعد الشدة ) أن الوليد بن عبد الملك بن مروان كتب إلى صالح بن عبد الله المزني، عامله على المدينة، أن أنزل الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فاضربه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خمسمائة سوط.

قال: فأخرجه صالح إلى المسجد، ليقرأ عليهم كتاب الوليد بن عبد الملك، ثم ينزل فيضرب الحسن، فبينما هو يقرأ الكتاب، إذ جاء علي بن الحسين عليهما السلام ، مبادراً يريد الحسن، فدخل والناس معه إلى المسجد، واجتمع الناس، حتى انتهى إلى الحسن فقال له: يا ابن عم، ادع بدعاء الكرب . فقال : وما هو يا ابن عم قال: قل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين [6]. قال: وانصرف علي، وأقبل الحسن يكررها دفعات كثيرة. فلما فرغ صالح من قراءة الكتاب ونزل عن المنبر، قال للناس: أرى سحنة رجل مظلوم، أخروا أمره حتى أراجع أمير المؤمنين، وأكتب في أمره . ففعل ذلك ، ولم يزل يكاتب ، حتى أطلق . قال: وكان الناس يدعون ، ويكررون هذا الدعاء ، وحفظوه . قال: فما دعونا بهذا الدعاء في شدة إلا فرجها الله عنا بمنه . )

 

اللهم إليك نفزع ، وعليك نتوكل ، وإياك نستعين .

سبحانك لا مغلق لما فتحت ، ولا فاتح لما أغلقت .

سبحانك لا ميسر لما عسرت ، ولا معسر لما يسرت .

 

اللهم اجعل لنا وللمستضعفين من المؤمنين من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ومن كل بلاء عافية . دعوناك كما أمرتنا ، فاستجب لنا كما وعدنا وأنت القريب المجيب ، لا نخيب ونحن لك راجون ، ولا نذل ونحن بابك واقفون ، ولا نفتقر ونحن لك قاصدون .

*/ كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا

22/2/1429


[1] ينظر : الاعتقاد للبيهقي ص60 ، والأسماء والصفات للرضواني ص88 بتصرف واختصار .

[2] متفق عليه : رواه البخاري برقم 967 ، ومسلم برقم 898 من حديث أنس رضي الله عنهما .

[3] قال الإمام ابن القيم في الجواب الكافي ص7 :وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله أو حسنة تقدمت منه جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكراًَ لحسنته أو صادف الدعاء وقت إجابة ونحو ذلك فأجيبت دعوته فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء فيأخذه .

[4] أخرجه البخاري في صحيحه ( 5/ 2336 برقم 5986 ) .

[5] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/391 برقم ( 3712)

[6] يقال في هذا الدعاء مثل ما قاله الإمام ابن القيم في الدعاء السابق فإن الوارد في دعاء الكرب هو الحديث المعروف في حاشية (4) .

المصدر :

العقيدة والحياة

 www.al-aqidah.com

تم تحميل هذه المادة من

موقع الكتيبات الاسلامية

www.ktibat.com

========================

أخي المريض ماذا بعد الشفاء ؟ -دار ابن خزيمة أزهري أحمد محمود

 

أخي المريض ماذا بعد الشفاء ؟ -دار ابن خزيمة  أزهري أحمد محمود

-----------------

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله تعالى أنعم على الدوام، ورزق كثيرًا على التمام. والصلاة على النبي محمد والسلام. وعلى الآل والأصحاب أقمار الظلام.

وبعد:

لا تزال النفوس تهفو إلى حياة خالية من الأمراض.. صافية من شوائب الأسقام!

تلك هي أمنية المخلوق الضعيف.. الجاهل الذي وقف عقله عند علمه.. لا يدري ما وراء الأقدار من الحكم والأسرار!

فعجبًا لك يا ابن آدم! مالك إذا وجدت نسيم العافية؛ تطاولت.. وشرهت نفسك إلى هذا.. وإلى هذا!

حتى إذا أصابك المرض بمراراته؛ انقبضت انقباض العاجز.. وتراجع ذلك التعالي؟!

قال الحسن البصري: «لولا ثلاث ما استُطِيعَ ابن آدم، إنك لتجدهن فيه، وهو معهن: الفقر، والمرض، والموت».

أخي المريض: وهذه وقفة محاسبة.. بعد أن ذقت حلاوة الصحة.. وجدت نسمات الشفاء ..

إنها مرحلة حري بكل عاقل أن يقف عندها كثيرًا.. ليستلهم دروسها.. ويفهم مواعظها.. فإلى هذه الدروس البليغة..

* تذكر نعمة الصحة والعافية:

أخي المريض: لقد ذقت الأمرين: بلاء المرض، ونعمة الصحة والعافية.. ورأيت كم بينهما من التفاوت والدرجات!

فأنت بالمرض: ضعيف القوى.. منقبض.. مقيد الحركات!

وأنت بالصحة: قوي.. نشيط.. غادي ورائح في شؤونك.. تجد بهجة الحياة وسرورها.

أليس في هذا – أيها العاقل – داع لك في تذكر عظم نعمة الصحة؟!

قال r: «من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» [رواه الترمذي وابن حبان/ صحيح الجامع: 6042].

قال بكر بن عبد الله المزني: «من كان مسلمًا، وبدنه في عافية، فقد اجتمع عليه سيد نعيم الدنيا، وسيد نعيم الآخرة؛ لأن سيد نعيم الدنيا: هو العافية، وسيد نعيم الآخرة: هو الإسلام».

أخي المريض: إن نعمة الصحة لا يعرفها على حقيقتها إلا أولئك الذين تجرعوا مرارة كأس المرض.. وذاقوا غصصه.. إذ أن الضد يعرف بضده!

قال حاتم الزاهد: «أربعة لا يعرف قدرها إلا أربعة: قدر الشباب، لا يعرف قدره إلا الشيوخ، ولا يعرف قدر العافية إلا أهل البلاء، ولا قدر الصحة إلا المرضى، ولا قدر الحياة إلا الموتى».

أخي المريض: فيا لنعمة الصحة من نعمة! وقد أراك المرض مرارة فقدها!

فتفكر – أيها العاقل – كم من مرضى فقدرها.. اعتاضوا بها مرارة الأسقام.. وأكدار الأمراض!

عن علي t في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال: «الأمن، والصحة، والعافية».

وقال قبيصة بن ذؤيب: «كنا نسمع نداء عبد الملك بن مروان من وراء الحجرة في مرضه: يا أهل النعيم، لا تستقلوا شيئًا من النعم مع العافية»!

أخي المريض: كم نعمة لله تعالى شاهدة على جزيل مواهبه... وجليل عطاياه.. وقليل أولئك الذين يقفون عند هذه المحطة؛ ليبصروا عظيم منن الله تعالى على خلقه..

قال بكر بن عبد الله المزني: «يا ابن آدم، إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك، فغمض عينيك»!

* أخي المريض: فهل شكرت الله على نعمه؟!

إن من وقف على عظم نعم الله تعالى على خلقه – ومنها الصحة – وجب أن يشكره.. ونعمة الصحة من النعم العظام.. فهل شكرت الله تعالى عليها؟!

إن سلامة جوارحك.. واعتدال خلقك.. وما أكرمك الله به من نعمة الفهم.. وغير ذلك من النعم.. كل ذلك يدعوك إلى شكر الله.. والاستعانة بهذه النعمة على طاعته تبارك وتعالى..

قال عبد الرحمن بن زيد: «الشكر يأخذ بحزم الحمد وأصله وفرعه؛ ينظر في نعم الله، في بدنه، وسمعه، وبصره، ويديه، ورجليه وغير ذلك، ليس من هذا شيء إلا فيه نعمة من الله، حق على العبد أن يعمل في النعمة التي هي في بدنه لله في طاعته، ونعمة أخرى في الرزق، وحق عليه أن يعمل لله فيما أنعم عليه به من الرزق بطاعته، فمن عمل بهذا كان قد أخذ بحزم الشكر، وأصله، وفرعه»!

أخي المريض: فكم من متسربل بنعم الله تعالى.. عامل فيها بالمعاصي.. مستعين بها في هوى النفس.. وشهواتها!

وحق على من وجد حلاوة الصحة.. أن يعمل فيها بطاعة الله تعالى.. ويجعلها مطية إلى رضوان الله تعالى..

عن أبي الحجراء، قال: كنا ندخل على المغيرة – أبي محمد – فنقول: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: أصبحنا مغرقين في النعم، مقصرين في الشكر، يتحبب إلينا ربنا عز وجل، وهو غني عنا، ونتمقت إليه ونحن إليه محتاجون!

أخي المريض: هذا كلام أقوام اشتهروا بالصلاح.. والاشتغال بالطاعات.. فكيف بمن تسربل بالذنوب.. وما زال رافلاً في أثواب التقصير؟!

* هل من رجوع إلى الله تعالى؟!

أخي المريض: وأنت تذوق حلاوة الصحة.. إنه لحري بك أن ترجع إلى دفاتر أعمالك.. فتسعى جاهدًا إلى إلغاء تلك الصفحات.. التي سودتها الذنوب والمعاصي.. فتستقبل صفحات جديدة.. صفحات يشع منها نور: «التوبة والرجوع إلى الله تعالى».

قال أبو صفوان: «إن الله خلق جنة، وأعد فيها نعيمًا، وندبنا إليه بترك الشهوات، فلم نطعه، ثم أصبنا الشهوات، فأورثتنا الأدواء، فجئنا إلى بعض خلقه ممن نشتمهم غدوة وعشيًا، فقلنا: داوونا. فقالوا: نداويكم على أن تتركوا الشهوات. فأطعناهم»!

أخي المريض: إن ربك تعالى قريب من التائبين.. يفرح برجوع المذنبين.. يقبل على من أقبل نحو بابه.. يرجو غفرانه.. وقبوله في زمرة التائبين..

قال النبي r: «قال الله عز وجل: يا ابن آدم، قم إلي أمش إليك، وامش إلي أهرول إليك»!

[رواه أحمد/ صحيح الترغيب والترهيب للألباني: 3153]

عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]. قال: «الرجاعين إلى الخير».

أخي المريض: كم من أناس عندما وجدوا كرب المرض.. حنت نفوسهم إلى سبل الطاعات.. وعزموا إن ذاقوا حلاوة العافية أن يهجروا الذنوب.. ويفارقوا سبل العصاة.

ولكن بعد أن وجدوا نشوة الصحة.. وعادات إلى أجسادهم نضارة العافية.. نسوا تلك العهود.. وحنت النفوس مرة أخرى إلى المعاصي!

فيا أيها المسكين! أنسيت أن الذي أعطاك العافية قادر أن يردك مرة أخرى إلى حالك الأول؟!

فأفق – أيها الضعيف – واعلم أنك بغير حفظ الله ورحمته؛ لا تملك من أمرك شيئًا!

واعلم أنه ليس في كل مرة تجد الفرصة.. فقد تؤخذ وأنت على الذنوب.. وقد حيل بينك وبين التوبة!

أخي المريض: حري بالعاقل أن يجعل مرحلة الشفاء؛ مرحلة جديدة.. ينظف فيها طريقه إلى الله تعالى.. عسى أن يفوز بحسن الخاتمة..

* فرصة للمحاسبة:

أخي المريض: إن من الفوائد العظيمة للمرض: أنه يدعو العقلاء إلى محاسبة النفس.. والتفكير في الرجوع إلى الله تعالى..

عن الحسن البصري: أنه ذكر الوجع، فقال: «أما والله ما هو بشر أيام المسلم، أيام قورب له فيها أجله، وذكر فيها ما نسي من معاده، وكفر بها عنه خطاياه».

وعن أبي المليح قال: «دخل صالح بن مسمار على مريض يعوده وأنا معه، فلما قام من عنده، قال: إن ربك قد عاتبك فأعتبه».

أخي المريض: إن من لازم الشكر على الشفاء؛ أن تحاسب نفسك محاسبة الغريم.. وتقرعها بسوط المؤاخذة.. وتردها إلى طريق الهدى ردًا!

دخل ابن السماك على الرشيد في عقب مرض، فقال: «يا أمير المؤمنين، إن الله ذكرك فاذكره، وأطلقك فاشكره».

أخي المريض: أرأيت يوم أن كنت تحتمي عن الطعام مخافة زيادة الداء.. وتتناول الدواء المر.. والصعب على النفس.. كل ذلك حرصًا على العافية.. فهل دعاك ذلك إلى التفكير في عافية القلب؟!

نعم.. عافية القلب من ران الذنوب والمعاصي.. وتطهيره من أدران مساوئ الأخلاق..

قال مالك بن دينار: «عجبت ممن يحتمي من الطعام مخافة الداء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار»!

وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: «كن كالمداوي جرحه، يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء».

أخي المريض: فلتقف على عتبة المحاسبة.. فإن للعافية جموحا ونفورا، إن لم تكبحه بلجام الشرع، وأدب الدين؛ نفرت نفورًا نحو هوى النفس ورغائبها.. وكم في ذلك من شرور!

فحاسب نفسك – أيها العاقل – عسى أن تصيب لدائها دواء..

* فرصة للمباردة إلى الطاعات..

عجبًا ممن أطلقته الأمراض من أسرها.. ثم لا يدعوه ذلك إلى الازدياد من الطاعات.. ومبادرة العمر بالصالحات!

فما أحوجك – أيها المسكين – إلى ذخر تقدمه بين يديك.. يوم لا ينفع إلا صالح الأعمال!

أخي المريض: إن المبادرة إلى الصالحات؛ فعل الألباء.. وديدن الصالحين.. فلا تخدعنك بشاشة العافية عن يوم عافيتك الحقيقي!

قال رسول الله r: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك، قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».

[رواه الحاكم/ صحيح الترغيب للألباني: 3355]

وقد كان الصالحون وهم في أشد كربات المرض؛ يبادرون إلى الطاعات.. ويسارعون إلى فعل الطاعات.. فحري بمن وجد حلاوة الصحة أن يكون أشد حرصًا على عمل الطاعات.. والتزود من الصالحات..

كان الجنيد يقرأ وقت خروج روحه، فيقال له: في هذا الوقت؟! فيقول: أبادر طي صحيفتي!

وقيل لحسان بن أبي سنان في مرضه: كيف تجدك؟ قال: بخير إن نجوت من النار! وقيل: فما تشتهي؟ قال: ليلة طويلة الطرفين أحيي ما بينهما!

فتأمل – وفقك الله – في همة هؤلاء الصالحين؛ صار حب الصالحات ديدنهم.. وسرور نفوسهم!

أخي المريض: فإياك والتفريط في ساعات العمر.. فإن الأيام وشيكة الانصرام.. وقد ذقت مرارة البلاء وأنت تعيش ساعات المرض.. فلا تبطرنك العافية؛ فتضيع ساعات عمرك في غير طاعة الله تعالى!

وقد قال النبي r: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة، والفراغ» [رواه البخاري].

قال ابن الجوزي: «قد يكون الإنسان صحيحًا، ولا يكون متفرغًا؛ لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة؛ فهو المغبون، وتمام ذلك؛ أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله؛ فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله؛ فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم...».

أخي المريض: فلتغتنم أيام الصحة والفراغ.. ولتجعلها موسمًا من مواسم الطاعات.. لا عرف الانقطاع.. فإن ساعات العمر أغلى من أن تضيعها في غير طاعة الله تعالى..

واحرص على عمل الطاعات كحرصك على تحصيل الصحة أيام مرضك.. تفوز إن شاء بالعافية في الدين.. والسلام من كربات يوم الدين..

وأخيرًا: لا تخدعنك الدنيا:

أخي المريض: احذر بهرج الدنيا.. وزخرفها الكاذب.. فكم خدعت من مخدوع.. وكم أهلكت من مغبون!

ولكن فلتجعلها مطية تقودك إلى الآخرة.. ومزرعة تحصد ثمارها غدًا.. يوم لا بضاعة إلا العمل الصالح.. {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 131، 132].

وقد قال رسول الله r: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر» [رواه مسلم].

أخي المريض: فإن من انقطع إلى الدنيا؛ شغلته عن الطاعات.. وأوقعته في الهلكات.. فتراه لاهثًا خلف سرابها.. وطالبًا لحطامها الرخيص!

فخذ – أيها العاقل – بالأحزم من أمرك.. واجعل الدنيا ميدانًا تستبق فيه إلى الباقيات.. ومهلة تغتنم فيها الصالحات.. ولا تخدعنك فتوة الصحة؛ فتنغمس في الشهوات.. وتفني العمر في غير الطاعات!

* ثم..

* لا تنس أن ساعات العمر قليلة وإن طالت..

* وأن خير أيامك ما أودعته صالح الأعمال..

* والخاسر الحقيقي من ضاعت أيام عمره في غير طاعة الله تعالى!

* وبضاعة الآخرة اليوم رخيصة.. وسيأتي يوم لا سبيل إلى تحصيلها!

* لا تجعل الدنيا غاية سعيك.. ولكن فلتجعلها جسرًا تعبر به إلى النعيم الباقي.

* ومهما طلب الطالبون من عافية وصحة.. فلن يجدوا ألذ من العافية في الدين..

* اليوم عمل.. وغدًا يظهر الرابح من الخاسر..

والحمد لله تعالى.. الصلاة والسلام على النبي وآله والأصحاب.. 

أزهري أحمد محمود 

==========

الجامع لأحكام الجنائز {ج 2 و ج 4.}في سؤال وجواب المؤلف ندا أبو أحمد

  2ـ المشروع والممنوع بعد الوفاة M إن الحمد لله تعالى نحمده     ونستعينه   ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ...