❷ سارعوا إلي ربكم وجنة

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

الاثنين، 28 يونيو 2021

قيام الليل والتهجد بالأسحار وأهمية قيام الليل وعلاقته بالنصر

قيام الليل والتهجد بالأسحار


الحمد لله الذي امتن على العباد بفضله، وجاد عليهم بآلائه ونعمه، وأفاض عليهم بحلاوة مناجاته ونسيم قربه، والصلاة والسلام على خير خلقه، وأكمل رسله وأنبيائه، الذي قام بين يدي ربه حتى تفطرت قدماه فَسُأل عن ذلك فقال أفلا أكونَ عبداً شكورا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتدى به واستن بسنته إلى يوم الدين.


أما بعد، فاتقوا الله عباد الله:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].


أيها المؤمنون والمؤمنات:
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له))، وفي بعض الروايات:(هل من تائب فأتوب عليه))، وفي أخرى: ((من الذي استرزقني فأرزقه، من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه))، زاد مسلم: ((حتى ينفجر الفجر)).


أتسمعون يا عباد الله:
نداء الرحمن، أتسمعون نداء الملك الديان، أتسمعون أم القلوب غافلة لاهية، من الذي ينادي على عباده إنه الله جل جلاله، إنه جبار الجبابرة، وقاصم ظهور القياصرة.


عباد الله:
في هذا الحديث يبين الله - جل جلاله - أنه يحب من عباده القيام بين يديه في الثلث الأخير من الليل، وكونه أفضل الأوقات لسكون القلب وعدم انشغاله بغيره، ويشوقهم للقائه وقربه ومناجاته، ويحثهم على طلب فضله وجوده، وأنه يسمع دعائهم ويحثهم على الإكثار منه لقربه منهم وعلمه بحالهم وحاجتهم، وأنه قريب من كل داع يدعوه منهم فيتفضل عليهم بإجابته تفضلاً عليهم وإكراما، وأن من سأله أعطاه سؤله، أليس فينا من يحتاج للهداية إلى صراطه المستقيم، ومن يحتاج لقضاء دينه، ومن يحتاج لشفائه ورفع الضر عنه، ومن يحتاج أن يهدي الله له زوجته وأولاده، ومن يحتاج لمن يفرج همه وينفس كربه ويذهب عنه الضيق والحزن، أليس منا من هو مظلوم فينصره.


ووعد سبحانه أيضاً أن من استغفره وهبه مغفرته، وأفاض عليه بنفحات رحمته، أليس منا من كثرت ذنوبه، وظهرت عيوبه، وتعاظمت سيئاته، فهو الذي وعد ووعده الحق أنه من تاب إليه وأناب غفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر أو مثل الجبال، ولو كانت ملء الأرض كلها، وهو الذي وعد عباده التائبين بتبديل السيئات حسنات، أليس هو سبحانه الذي يفرح بتوبة عبده وأمته، ، ألا يحق لنا أن نفرح بذلك ونبادر بالقيام بين يديه، وأن نتلذذ بذكره والسجود بين يديه، فمن علم ذلك يقيناً بادر إلى ترك فراشه، وقام ليناجي حبيبه ووليه، ويتقرب إلى محبوبه الذي أفاض عليه بنعمه، ففي ذلك سعادة الدنيا والآخرة، وفي ذلك الزاد إلى الدار الآخرة التي وعد الله عباده القائمين بين يديه في خلواتهم أن لهم عنده في الجنان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفي ذلك إشارة عظيمة لقرب الرب - جل وعلا - من عباده، وأنه يمن عليهم بعظيم فضله وجوده.


آه ثم آه .. لو يعلم المحروم سعادة من يناجي ربه، ويتلذذ بقربه، ويبكي بين يديه لمحبته له وشوقه، يرجو رحمته ويخاف عذابه، يرى السعادة كلها في القيام بين يديه لتلاوة كلامه، ويرى الفرح والسرور في تسبيحه وذكره، ويرى عظيم فضله في السجود بين يديه للتمتع بمناجاته وقربه، ويرى شجون القلب وفرحه بطاعته لربه، فيالها من سعادة لا ينالها إلا من صدق مع ربه، قال تعالى عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 60- 61]، ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ﴾ [الفرقان: 64].


فهؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ للنفس بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم ساجدون قائمون، ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن ذي الجلال والإكرام، وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتليء قلوبهم بالتقوى والخوف من عذاب جهنم يقولون: ﴿ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ [الفرقان: 65- 66].


ويكثرون من الاستغفار على قلة ذنوبهم، فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق وثمرة التصديق، وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم، لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجداً وقياما، فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم ولا يرون فيها ضماناً ولا أمانا من النار إن لم يتداركهم الله بفضله وعفوه ورحمته. قال تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17- 18].
قال الحسن - رحمه الله -: (لا ينامون من الليل إلا أقله كابدوا قيام الليل).


عباد الله:
إن قيام الليل عبادة جليلة وقربة عظيمة لا يدركها إلا من علم حقارة الدنيا، وأنها متاع زائل حقير، لما سمع قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ [غافر: 39]، فباع دنياه الفانية بأخراه الباقية. وقال تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾ [المزمل: 6].


يقول العلامة ابن سعدي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: (أي الصلاة بالليل فيه بعد النوم أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن الكريم، أي يتواطأ على القرآن الكريم القلب واللسان، ويفهم ما يتلو من الآيات الكريمة بخلاف النهار لكثرة الشواغل) انتهى.


وقال تعالى: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ [المزمل: 5]، أي ثقيل في الميزان يوم القيامة، وهذا يدل على عظم أمر قيام الليل لقد ربى الله تعالى الرعيل الأول من الصحابة على قيام الليل في بدء الدعوة اثني عشر شهراً كاملاً على عبادة عنوانها الإخلاص وقوامها الصبر، حين يترك الإنسان المتهجد دفء الفراش ويصفّ قدميه في محرابه بين يدي مولاه ولو استطاع أن يخفي عمله هذا عن الحفظة لأخفاه، لسان حاله يناجي مولاه. إن سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة سيماء يحتكرها المؤمنون، ولئن توهم الدنيوي جناته في الدينار والنساء والقصر المنيف فإن جنة المؤمن في محرابه، روى البيهقي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخّاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة))؛ رواه ابن حبان، والبيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3092). والجعظري هو الشديد الغليظ، والجواظ: هو الأكول، وقيل: الجموع المنوع، والصخَّاب: هو الصياح. قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7]، فهؤلاء حق لهم أن يحزنوا، وأن يبكوا على أنفسهم لما حُرموا من رحمة ربهم لاهتمامهم بأمر دنياهم على أمر آخرتهم.


عباد الله:
إن قيام الليل سمت الصالحين وقربة إلى رب العالمين، روى الترمذي من حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم ومغفرة للسيئات ومنهات عن الإثم))؛ حسنه الألباني.
وروي عن الشافعي - رحمه الله - أنه كان يجزيء الليل، فثلثه الأول يَكْتُبُ، والثاني يُصَلِّي، والثالث يَنَامُ.


إن صلاة الليل سنة مؤكدة ثابتة بالكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿ وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ﴾ [الإسراء: 79].


ولقد أثنى الله تعالى على من يقوم الليل بالإيمان الكامل: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16].


قال الحسن البصري - رحمه الله -: (أخفى القوم أعمالاً فأخفى الله تعالى لهم ما عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).


وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))؛ رواه مسلم، وقال أيضاً: ((أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام))؛ صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج1ص253).


وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام،وصلى بالليل والناس نيام))؛ رواه ابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج1 ص254رقم614).


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ [الفرقان: 63- 66].


بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل قيام الليل قربة إليه، وأثاب عليها السكنى في دار كرامته، والتمتع فيها بالنظر إلى وجهه، والصلاة والسلام على من عرف حق ربه فقام بين يديه لمناجاته وذكره، فبكي وطال بكاؤه فنال من عظيم فضله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ساروا على نهجه وسنته فكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هو يستغفرون.


وبعد، عباد الله:
لقد كان آباؤنا وأمهاتنا إلى اليوم يعمرون ليلهم بالقيام، ونهارهم بالصيام، فكانت بيوتهم بالليل عامرة بذكر الله، وتلاوة القرآن، وقيام المتهجدين، وزفرات المستغفرين بالأسحار، كان يُسمع لبيوتهم أصوات التالين للقرآن، وبكاء القائمين الساجدين، كانوا حريصين على العمل بما يرضيه، وبما يقربهم إليه، فكانت لذتهم في القيام بين يديه أعظم من لذة الطعام والشراب، وعلى الرغم مما كانوا يعانونه من شدة المؤنة وقلة الزاد إلا أنهم كانوا يحبون طاعة ربهم، ويسارعون إلى مرضاته، ليتفضل عليهم برحمته ورضوانه، فكانت لهم السعادة في الدنيا والآخرة، فأين نحن يا عباد الله من هؤلاء؟
ألا يكون منا من يقوم بالأسحار ينادي رب الأرباب ليمن عليه بعفوه ومغفرته، ألا يكون منا من يبكي بين يديه يشتكي إليه غفلته وإعراضه، ألا يكون منا من يقوم بآياته يتلوها متمتعاً بقربه، وفرحاً بتلاوة كلامه، وتصديقاً ومحبة وشوقاً بلقائه. لقد حُرم الكثيرون يا عباد الله من لذة القرب من الله، حرموا من لذة ذكره، والتمتع بمناجاته وقربه بسبب كثرة أمراض قلوبنا من الحقد والحسد والبغضاء والكبر والغرور والعجب والتعلق بالدنيا والرياء والسمعة والمفاخرة بالأنساب.


وانظروا لحال الناس اليوم كم منهم من يسهر على معصية الله، والتمتع بما حرمه الله، والنظر لما يسخطه، باعوا الباقية بالدنيا الزائلة، فنالوا الخسارة في الدارين، ونالوا الحزن والندم يوم العرض عليه.


لقد شقي أقوام بسبب بعدهم عن مناجاة الكريم الحليم، فقست قلوبهم، وتحجرت أعينهم، وباؤوا بالحرمان من القرب من ربهم، فعانوا الحسرة والشقاء في الدنيا قبل الآخرة، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ [طه: 124].


عباد الله:
والمشروع في صلاة الليل مثنى مثنى لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((صلاة الليل مثنى مثنى))؛ متفق عليه.


والوارد من فعل: أنه كان يوتر بإحدى عشرة ركعة ويسلم من كل اثنتين، وربما أوتر بثلاث عشرة ركعة كما ثبت في الصحيحين، والأمر في ذلك واسع، والأولى للمسلم أن يحافظ على الوتر، إما بركعة واحدة، أو ثلاث أو أكثر بحسب استطاعته، وليجتهد في ذلك، فأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل. سُئل شيخنا العلامة ابن باز - رحمه الله - كيف يصلي من أوتر أول الليل وقام آخره؟ فأجاب - رحمه الله -: (يصلي ما ييسر الله له شفعاً بدون وتر لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس، والحكمة في ذلك والله أعلم ليبين للناس جواز الصلاة بعد الوتر. وكان إذا استيقظ مسح النوم عن وجهه وتسوك، ثم قال: ((اللهم أستغفرك لذنبي لا إله إلا أنت سبحانك)).


وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت: لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ((أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً))؛ رواه البخاري.


عباد الله:
إن قيام الليل شأنه عظيم وله تأثير قوي على سلوك الفرد ودعوته وأمره ونهيه، فاحرصوا يا عباد الله على أن تقوموا من الليل ولو جزءاً يسيراً، فإن ركعة واحدة بالليل خير من عشرين في النهار، وإنها لتعرضك لنفحات ربك الكريم ومنها إجابة الدعاء، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الليل لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله فيها خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة))؛ رواه مسلم.


وهذه بعض الأسباب المعينة بإذن الله تعالى على قيام الليل:
(1) محبة الله والشوق لقربه ومناجاته.
(2) الإخلاص في عبادته.
(3) معرفة فضل قيام الليل.
(4) قراءة آية الكرسي وأذكار النوم وقراءة المعوذات والنفث والمسح على الجسم فهو حصن - بإذن الله تعالى - لا يخترقه الشيطان.
(5) مجاهدة النفس والشيطان، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد)).
(6) قصر الأمل وتذكر الموت لحديث: ((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك))؛ رواه البخاري.
(7) اغتنام الصحة والفراغ: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ))؛ رواه البخاري.
(8) الحرص على النوم مبكراً وأن ينام على طهارة، وألا يكثر من الأكل، ولا يتعب نفسه بالنهار بالأعمال التي لا فائدة منها، ولا يترك نوم القيلولة، ويجتنب الذنوب والمعاصي.


ذكر عن الثوري - رحمه الله - أنه قال: (حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته).


وانتبهوا بارك الله لنا ولكم إلى أمر عظيم يعين على القيام ألا وهو سلامة القلب للمسلمين، وطهارته من الشرك، والشك، والبدع، والأفكار المضللة، واتباع الهوى.
واعلموا أن محبة الله تعالى ثم محبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أقوى الأسباب المعينة على قيام الليل.
فليبدأ الإنسان بقيام الليل في أول الأمر ويداوم عليه ولو كان قليلاً، ففي الحديث: ((عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا)) وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه.
فقليل دائم خير من كثير منقطع، وأدعو الله تعالى أن يعيننا وإياكم على القيام بين يديه والتمتع بذكره وقربه.


هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: ٥٦].
////////////////////////////////////////////////////////////

أهمية قيام الليل وعلاقته بالنصر

قيام الليل سبيل المحبين، ووطن المجتهدين، مَن تمسَّك بقيام الليل فقد وصل لمرحلة الأتقياء، ووصل لدرجة الصابرين، مَن تلذذ به فقد امتلك مقاليد الحكم الإنساني، واستردَّ عافية القلب المريض، قيام الليل ليس صلاة تتكوَّن من ركوع وسجود، بل إنها صلاة القلوب والعقول، صلاة ليست أقوالاً وأفعالاً فقط، بل إنها صلاةٌ تُخَاطِب الأقوال والأفعال من قلبٍ لا يدَّعِي أنه يتنفَّل رغبةً في ثواب وأجرٍ، ليصل إلى منزلة عالية في جنة الرب الخالدة، القلب هنا يخاطب الأقوال والأفعال؛ ليكون سائرًا في جنة الآخرة وهو على أرض الدنيا، ويصل إلى رؤية الكريم المتعال بعد الانتقال من أرض الدنيا إلى أرض الآخرة، هذه الصلاة إن لم تكن سبيلاً للترقي إلى سماء الخلد، فقد ضاعت سبل السلامة المؤدِّية إلى أرض الحقيقة.


وحتى نستطيع قيام الليل علينا بأربعة أمور ظاهرة وباطنة:
"فأما الأمور الظاهرة:
فالأول: ألاَّ يكثر الأكل، فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام، كان بعض الشيوخ يقف على المائدة كل ليلة، ويقول: معاشر المريدين، لا تأكلوا كثيرًا، فتشربوا كثيرًا، فترقدوا كثيرًا، فتتحسروا عند الموت كثيرًا، وهذا هو الأصل الكبير، وهو تخفيف المَعِدَة عن ثقل الطعام.
الثاني: ألاَّ يُتعِب نفسه بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح، وتضعف بها الأعصاب، فإن ذلك أيضًا مجلبة للنوم.
الثالث: ألا يترك القيلولة بالنهار، فإنها سنة؛ للاستعانة على قيام الليل.
الرابع: ألا يحتقب الأوزار بالنهار؛ فإن ذلك ممَّا يقسِّي القلب، ويَحُول بينه وبين أسباب الرحمة، قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إني أبيتُ معافًى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال: ذنوبك قيَّدتك، وكان الحسن - رحمه الله - إذا دخل السوق فسمع لغطهم ولغوهم، يقول: أظن أن ليل هؤلاء ليل سوء، فإنهم لا يقيلون.
وقال بعض العلماء:
إذا صُمْتَ يا مسكين، فانظر عند مَن تفطر، وعلى أي شيء تفطر، فإن العبد ليأكل أكلة، فينقلب قلبه عمَّا كان عليه، ولا يعود إلى حالته الأولى؛ فالذنوب كلها تُورِث قساوة القلب، وتمنع من قيام الليل، وأخصها بالتأثير تناولُ الحرام، وتؤثر اللقمة الحلال في تصفية القلب وتحريكه إلى الخير، ما لا يؤثر غيرها، ويعرف ذلك أهل المراقبة للقلوب بالتجربة بعد شهادة الشرع له؛ ولذلك قال بعضهم: كم من أكلة منعت قيام ليلة، وكم من نظرة منعت قراءة سورة! وإن العبد ليأكل أكلة أو يفعل فعلة فيُحرَم بها قيام سنة.
وأما الميسِّرات الباطنة، فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع، وعن فضول هموم الدنيا، فالمستغرق الهم بتدبير الدنيا، لا يتيسر له القيام، وإن قام فلا يتفكر في صلاته إلا في مهماته، ولا يجول إلا في وساوسه، وفي مثل ذلك يقال:
يخبرني البوَّابُ أنك نائم
وأنتَ إذا استيقظتَ أيضًا فنائم


الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل، فإنه إذا تفكر في أهوال الآخرة ودركات جهنم، طار نومه وعظم حذره؛ كما قال طاوس: إن ذكرَ جهنَّم طيَّر نوم العابدين، وكما حكي أن غلامًا بالبصرة اسمه صهيب، كان يقوم الليل كله، فقالت له سيدته: إن قيامك بالليل يضر بعملك بالنهار، فقال: إن صهيبًا إذا ذكر النار لا يأتيه النوم، وقيل لغلام آخر، وهو يقوم كل الليل، فقال: إذا ذكرت النار اشتد خوفي، وإذا ذكرت الجنة اشتد شوقي، فلا أقدر أن أنام.
الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل بسماع الآيات والأخبار والآثار، حتى يستحكم به رجاؤه وشوقه إلى ثوابه، فيهيجه الشوق لطلب المزيد، والرغبة في درجات الجنان؛ كما حكي أن بعض الصالحين رجع من غزوته فمهَّدت امرأتُه فراشَها وجلست تنتظره، فدخل المسجد ولم يزل يصلي حتى أصبح، فقالت له زوجته: كنا ننتظرك مدة، فلما قدمت صليت إلى الصبح؟ قال: والله إني كنت أتفكر في حوراء من حور الجنة طول الليل، فنسيت الزوجة والمنزل، فقمت طول ليلتي شوقًا إليها.
الرابع: وهو أشرف البواعث؛ الحب لله، وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناجٍ ربه، وهو مطلع عليه مع مشاهدة ما يخطر بقلبه، وأن تلك الخطرات من الله -تعالى- خطاب معه، فإذا أحب الله -تعالى- أحب لا محالة الخلوة به، وتلذَّذ بالمناجاة، فتحمله لذة المناجاة بالحبيب على طول القيام، ولا ينبغي أن يستبعد هذه اللذة؛ إذ يشهد لها العقل والنقل، فأما العقل، فليعتبر حال المحب لشخص بسبب جماله، أو الملك بسبب إنعامه وأمواله، أنه كيف يتلذَّذ به في الخلوة ومناجاته، حتى لا يأتيه النوم طول ليله.
فإن قلت: إن الجميل يتلذَّذ بالنظر إليه وإن الله - تعالى - لا يرى؟ فاعلم أنه لو كان الجميل المحبوب وراء ستر، أو كان في بيت مظلم، لكان المحب يتلذَّذ بمجاورته المجردة دون النظر ودون الطمع في أمر آخر سواه، وكان يتنعم بإظهار حبه عليه، وذكره بلسانه بمسمع منه، وإن كان ذلك أيضًا معلومًا عنده.
فإن قلت: إنه ينتظر جوابه، فليتلذَّذ بسماع جوابه وليس يسمع كلام الله - تعالى؟ فاعلم أنه إن كان يعلم أنه لا يجيبه ويسكت عنه، فقد بقيت له أيضًا لذَّة في عرض أحواله عليه، ورفع سريرته إليه، كيف والموقن يسمع من الله - تعالى - كل ما يَرِدُ على خاطره في أثناء مناجاته فيتلذذ به؟! وكذا الذي يخلو بالملك، ويعرض عليه حاجاته في جنح الليل، يتلذَّذ به في رجاء إنعامه، والرجاء في حق الله - تعالى - أصدق، وما عند الله خير وأبقى، وأنفع مما عند غيره، فكيف لا يتلذَّذ بعرض الحاجات عليه في الخلوات؟"[1].
علاقة قيام الليل بالنصر:
قيام الليل بداية النصر، النصر على الأعداء، ومنهم بنو صهيون، فهي تربِّي القلوب والعقول؛ ولذلك تجعل الإنسان صاحب سلطة على النفس، ومَن يمتلك نفسه فقد انتصر عليها، وإن انتصر الإنسان على نفسه، فهو بالتالي قادر على النصر على عدوه، ومن هذا المنطلق فإن قيام الليل بداية النصر على الأعداء، الإنسان الذي يتحدَّى شهوة النوم التي تغلب كل البشر، وينتصر عليها؛ ليقوم مناجيًا ربه بلا جزع أو فزع، فهو صاحب قوة، لا يمكن مضاهاتها أينما وجد، هذا الإنسان لن يكون ضعيف القلب حيران، وإن كان كذلك، فلا مجال للهزيمة أمام أناس لا يمتلكون قلوبهم، بل قلوبهم تتملكهم، وعليه فإن مواجهتهم سهلة المنال، لن يكون فيها خوف أو جبن، وسيكون النصر - بإذن الله تعالى - واقعًا.
الإنسان الذي يتغلَّب على شهوة الفرج، ويترك زوجته على فراش الزوجية، ويناديه الفراش، ويقول: كيف تترك زوجتك هكذا، ولا تتمتع بها في هذا الوقت؟ ليصلي ركعات يُرضِي ربه، فهو قادر على مواجهة العدو بكل قوته المادية والمعنوية، ومغرياته الدنيوية، هذا الإنسان قادر على تتبع بؤر العدو والقضاء عليها.
الإنسان الذي يستطيع التغلُّب على ضعف بدنه، بسبب عمله بالنهار، ويقوم للصلاة في الليل، فهو مستعدٌّ للتغلُّب على العدو، ولو كان ضعيف البدن بسبب قوة العدو عدة وعتادًا حين القتال.
الإنسان الذي يتغلب على برودة الليل، ويقوم مناجيًا ربه، فهو قادر على النصر على مَن تسوِّل له نفسه ضرب الدين والوطن، كما هو معهود على الصهاينة الذين يحاولون ضرب الإسلام والوطن للقضاء عليهما.
وعلى كل ذلك، فإن قيام الليل مدرسةٌ لمَن يُرِيد تعلُّم مواجهة العدو بكل مؤامراته، قيام الليل أرضٌ خصبة لتربية الرجال، قيام الليل سبيل مهم للنصر على الأعداء، وكما قيل: إن القادة في الحروب إذا مرُّوا على الجنود ورأوهم يقيمون الليل، يقولون: من هنا يأتي النصر، وإذا وجدوا الجنود نائمين ولاهين يقولون: من هنا تأتي الهزيمة.
ثواب قيام الليل:
لقيام الليل ثواب عظيم، لا يعلمه إلا الله - تعالى - هذا الثواب ليس فقط النصر على الأعداء، بل هناك ثواب آخر، ولن أجد أفضل من الأخبار الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - للحديث عن هذا الثواب:
في الصحيح عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن من الليل ساعة لا يُوَافِقها عبد مسلم يسأل الله - تعالى - خيرًا إلا أعطاه إياه))، وفي رواية: ((يسأل الله - تعالى - خيرًا من الدنيا والآخرة، وذلك في كل ليلة)).
قال المُغِيرة بن شُعْبة: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطَّرت قدماه، فقيل له: "أما قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر؟"، فقال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))، ويظهر من معناه أن ذلك كناية عن زيادة الرتبة، فإن الشكر سبب المزيد؛ قال - تعالى -: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7].
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فيَغْلبه عليها النوم إلا كتب له أجرُ صلاته، وكان نومه صدقةً عليه)).
قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر - رضي الله عنه -: ((لو أردت سفرًا أعددت له عدة؟))، قال: نعم، قال: ((فكيف سفر طريق القيامة؟ ألا أنبئك يا أبا ذر بما ينفعك ذلك اليوم؟))، قال: بلى، بأبي أنت وأمي، قال: ((صم يومًا شديد الحر ليوم النشور، وصلِّ ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور، وحُجَّ حجة لعظائم الأمور، وتصدَّق بصدقة على مسكين، أو كلمة حتى تقولها أو كلمة شر تسكت عنها)).
يروى أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: نِعْمَ الرجل ابن عمر لو كان يصلِّي بالليل، فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فكان يداوم بعده على قيام الليل، قال نافع: كان يصلي بالليل، ثم يقول: يا نافع، أسحرنا؟ فأقول: لا، فيقوم لصلاته، ثم يقول: يا نافع، أسحرنا؟ فأقول: نعم، فيقعد، فيستغفر الله - تعالى - حتى يطلع الفجر.
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلَّى، ثم أيقظ امرأته فصلَّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء)).
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل)).
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن نام عن حزبه، أو عن شيء منه بالليل، فقرأه بين صلاة الفجر والظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل)).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يصلي حتى تَرِمَ قدماه".
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - تبارك وتعالى - إذا مضى ثلث الليل، أو نصف الليل، نزل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من داعٍ أستجيب له؟ هل من مستغفرٍ أغفر له؟ هل من تائب أتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر)).
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين".
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة الصلاةُ في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرَّم)).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصلَّيا ركعتين جميعًا، كُتِبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات)).
عن (سالمٍ) عن أبيه - رضي الله تعالى عنه - قال: كان الرجل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا قصَّها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتمنَّيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنتُ غلامًا شابًّا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيتُ في النوم كأن مَلَكينِ أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عَرَفتُهم، فجعلتُ أقول: أعوذ بالله من النار، قال فلقينا ملك آخر، فقال لي: لم تُرَعْ، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً))؛ (رواه البخاري).
عن بلال - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله - تعالى - ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد)).
عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو مقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم)).
قصص لها عبرة من قيام الليل:
قوَّام الليل من السلف الصالح كان لهم قصص عجيبة من قيام الليل، هذه القصص لها من العبر التي تحث المسلمين على قيام الليل، مَن أخذها وعَلِم فحواها، فقد استمسك بخير ما فيها، ومَن لم يهتمَّ بهذه العبر، فلا يلومنَّ إلا نفسه، هذه القصص والروايات من أقوال وأفعال العلماء:
روي أن عمر - رضي الله عنه - كان يمر بالآية من ورده بالليل فيسقط حتى يعاد منها أيامًا كثيرة كما يعاد المريض.
كان ابن مسعود - رضي الله عنه - إذا هدأت العيون، قام فيُسْمَع له دَوِيٌّ كدَوِي النحل حتى يُصِبح.
كان طاوس - رحمه الله - إذا اضطجع على فراشه يتقلى عليه كما تتقلى الحبة على المقلاة، ثم يثب ويصلي إلى الصباح، ثم يقول: طيَّر ذكرُ جهنم نومَ العابدين.
قال الحسن - رحمه الله -: ما نعلم عملاً أشد من مكابدة الليل، ونفقة هذا المال، فقيل له: ما بال المتهجِّدين من أحسن الناس وجوهًا؟ قال: لأنهم خَلَوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره، وقال الحسن: إن الرجل ليذنب الذنب فيُحرَم به قيام الليل.
قَدِم بعض الصالحين من سفره فمهِّد له فراش، فنام عليه حتى فاته وِرْده، فحلف ألا ينام بعدها على فراش أبدًا.
كان عبدالعزيز بن رواد إذا جنَّ عليه الليل يأتي فراشه فيمد يده عليه، ويقول: إنك لَلَيِّن، ووالله إن في الجنة لألين منك، ولا يزال يصلي الليل كله.
قال الفضيل بن عياض: إني لأستقبل الليل من أوله، فيهولني طوله، فأفتتح القرآن، فأصبح وما قضيت نهمتي.
وقال أيضا: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم وقد كثرت خطيئتك.
وقال أيضا: إذا غَرَبت الشمس فَرِحتُ بالظلام لخلوتي بربي، وإذا طلعت حزنت لدخول الناس عليَّ.
قال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وقال أيضًا: لو عوَّض الله أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدونه من اللذة، لكان ذلك أكثر من ثواب أعمالهم.
وكان صلة بن أشيم - رحمه الله - يصلِّي الليل كله، فإذا كان في السحر، قال: إلهي، ليس مثلي يطلب الجنة، ولكن أجرني برحمتك من النار.
كان للحسن بن صالح جاريةٌ، فباعها من قوم، فلما كان في جوف الليل قامت الجارية فقالت: يا أهل الدار، الصلاة الصلاة! فقالوا: أصبحنا، أطلع الفجر؟ فقالت: وما تصلُّون إلا المكتوبة؟ قالوا: نعم، فرجعت إلى الحسن، فقالت: يا مولاي، بعتنِي إلى قومٍ لا يصلُّون إلا المكتوبة؟ رُدَّني، فردها.
قال الربيع: بتُّ في منزل الشافعي - رضي الله عنه - لياليَ كثيرة، فلم يكن ينام من الليل إلا يسيرًا.
قال أبو الجويرية: لقد صحبتُ أبا حنيفة - رضي الله عنه - ستة أشهر، فما فيها ليلة وضع جنبه على الأرض.
كان أبو حنيفة يُحْيِي نصف الليل، فمرَّ بقوم، فقالوا: إن هذا يحيي الليل كله، فقال: إني أستحيي أن أوصف بما لا أفعل، فكان بعد ذلك يُحْيِي الليل كله، ويروى أنه ما كان له فراش بالليل.
يقال: إن مالك بن دينار - رضي الله عنه - بات يردِّد هذه الآية ليلةً حتى أصبح: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [الجاثية: 21] الآيةَ.
وقال المغيرة بن حبيب: رمقت مالك بن دينار فتوضَّأ بعد العشاء، ثم قام إلى مصلاه فقبض على لحيته فخنقتْه العَبْرة، فجعل يقول: حَرِّم شيبةَ مالكٍ على النار، إلهي، قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، فأي الرجلين مالك؟ وأي الدارين دار مالك؟ فلم يزل ذلك قولَه حتى طلع الفجر.
وقال مالك بن دينار: سهوتُ ليلة عن وِرْدي ونمتُ، فإذا أنا في المنام بجارية كأحسن ما يكون، وفي يدها رقعة، فقالت لي: أتحسن تقرأ؟ فقلت: نعم، فدفعت إليَّ الرقعة فإذا فيها:
أألهتْكَ اللذائذُ والأماني
عن البِيضِ الأوانس في الجنانِ
تعيشُ مخلَّدًا لا موتَ فيها
وتلهو في الجنانِ مع الحِسَانِ
تنبّه من منامِك إن خيرًا
من النومِ التهجُّد بالقُرانِ


يروى عن أزهر بن مغيث - وكان من القوَّامين - أنه قال: رأيتُ في المنام امرأة لا تشبه نساء أهل الدنيا، فقلت لها: من أنت؟ قالت: حوراء؛ فقلت: زوجيني نفسك، فقالت: اخطبني إلى سيدي وأمهرني؛ فقلت: وما مهرك؟ قالت: طول التهجُّد.
قيل: إن وهب بن منبه اليماني ما وضع جنبه إلى الأرض ثلاثين سنة، وكان يقول: لأن أرى في بيتي شيطانًا أحب إليَّ من أن أرى في بيتي وسادة؛ لأنها تدعو إلى النوم، وكانت له مسورة من أدم، إذا غلبه النوم وضع صدره عليها، وخفق خفقات ثم يفزع إلى الصلاة.
قال وهب بن منبه: "قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعز به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون دخول الجنة".
عن معاوية بن قرة، أنه حدَّث القوم، فقرأ هذه الآية: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ ﴾ [المزمل: 6]، فقال: "أتدرون ما ناشئة الليل؟ قال: قيام الليل".
كان رجلٌ من العبَّاد قلما ينام من الليل، فغلبتْه عينه ذات ليلة، فنام عن جزئه، فرأى فيما يرى النائم كأن جارية وقفت عليه كأن وجهها القمر المستَتِم، ومعها رَقٌّ فيه كتاب، فقالت: أتقرأُ أيها الشيخ؟ قال: نعم، قالت: فاقرأ لي هذا الكتاب، قال: فأخذته من يدها، ففتحته فإذا فيه مكتوب:
أألهتْك لذَّة نوم عن خير عيش مع الخيرات، في غرف الجنان، تعيش مخلدًا لا موت فيها، وتنعم في الخيام مع الحسان، تيقظ من منامك إن خيرًا من النوم التهجد بالقرآن، قال: فوالله ما ذكرتها قط إلا ذهب عني النوم.
عن الأجلح قال: رأيت سلمة بن كهيل في النوم، فقلت: "أي الأعمال وجدت أفضل؟ قال: قيام الليل".
عن الضحاك قال: "أدركتُ أقوامًا يَسْتَحْيُون من الله في سواد الليل أن يناموا من طول الضجعة".
قال أبو غالب: "صَحِبَنا شيخٌ في بعض المغازي، وكان يحيي الليل حيث كان، على ظهر دابته، أو على الأرض، وكان إذا نظر إلى الفجر قد سطع ضوؤه نادى: يا إخوتاه، عند بلوغ الماء يفرح الواردون بتعجيل الرواح، هنالك تنقطع كل همة".
قال أبو مدرك عثمان بن وكيع العبدي: جاء رجل إلى بيت المقدس فمدَّ كساءه من ناحية المسجد، وكان فيه الليل والنهار له طعيمة خلف ذلك الكساء الذي قد مدَّه، قال: فيبيت ليلته أجمع يصلي فإذا طلع الفجر مد بصوت له: "عند الصباح يغبط القوم السرى"، قال: وكان يقال له: ألا ترفق بنفسك؟ فيقول: "إنما هي نفس أُبَادِرها أن تخرج".
عن مولًى لعبدالله بن حنظلة يقال له سعد، قال: "لم يكن لعبدالله بن حنظلة فراش ينام عليه، إنما كان يلقي نفسه هكذا، إذا أعيا من الصلاة توسَّد رداءه وذراعه يهجع شيئًا".
قال عبدالله بن أبي زينب: قالت لي أمي: "يا بني، ما توسد أبوك فراشًا منذ أربعين سنة في بيتي"، قلت: أما كان ينام؟ قالت: "بلى، هجعة خفيفة وهو قاعد قبل الفجر"؛ الهجعة: النومة في وقت من الليل.
كانت معاذة العدوية تحيي الليل صلاةً، فإذا غلبها النوم قامتْ فجالت في الدار، وهي تقول: "يا نفس، النوم أمامك، لو قدمت لطالت رقدتك في القبر على حسرة أو سرور"، قالت: فهي كذلك حتى الصبح.
وقيل: إن معاذة العدوية لم تتوسد فراشًا بعد أبي الصهباء حتى ماتت.
وعن معاذة العدوية قالت: "كان صلة بن أشيم يقوم من الليل حتى يفتر، فما يجيء إلى فراشه إلا حبوًا".
قال الهيثم أبو علي المفلوج: "صلى سليمان التَّيْمِي الغداةَ بوضوء العتمة أربعين سنة"؛ يعني: كان يصلي الصبح بوضوء العشاء، وهذا دليل على أنه كان لا ينام الليل.
قال أبو إسحاق السَّبِيعي: "ذهبت الصلاة مني، وضعفتُ ورقَّ عظمي، إني اليوم أقوم في الصلاة فما أقرأ إلا البقرة وآل عمران".
قال سفيان بن عُيَينة: "كان أبو إسحاق يقوم ليلة الصيف كله، فأما الشتاء فأوله وآخره وبين ذلك هجعة".
عن سفيان قال: قال عون بن عبدالله: يا أبا إسحاق، ما الذي بقي منك؟ قال: أقوم فأقرأ البقرة في ركعة وأنا قائم، قال: "بقي فيك الخير وذهب منك الشر".
عن عبدالسلام بن حرب قال: "ما رأيتُ أحدًا قط أصبر على سهر بليل مِن خلف بن حوشب، سافرتُ معه إلى مكة فما رأيته نائمًا بليل حتى رجعنا إلى الكوفة".
كان منصور بن المُعتَمِر إذا صلى الغداة أظهر النشاط لأصحابه فيحدِّثهم ويكثر إليهم، ولعله إنما بات قائمًا على أطرافه، كل ذلك ليخفي عنهم العمل.
كان الحارث بن يزيد الحضرمي يصلِّي في اليوم والليلة ستمائة ركعة.
كان لرياح القيسي غلٌّ من حديد قد اتَّخذه، فكان إذا جنَّه الليل وضعه في عنقه، وجعل يبكي ويتضرع حتى يُصبِح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجامع لأحكام الجنائز {ج 2 و ج 4.}في سؤال وجواب المؤلف ندا أبو أحمد

  2ـ المشروع والممنوع بعد الوفاة M إن الحمد لله تعالى نحمده     ونستعينه   ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ...