❷ سارعوا إلي ربكم وجنة

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

الأحد، 27 يونيو 2021

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ

 ۞ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات ، فقال : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) أي : كما أعدت النار للكافرين . وقد قيل : إن معنى قوله : ( عرضها السماوات والأرض ) تنبيها على اتساع طولها ، كما قال في صفة فرش الجنة : ( بطائنها من إستبرق ) [ الرحمن : 54 ] أي : فما ظنك بالظهائر ؟ وقيل : بل عرضها كطولها ، لأنها قبة تحت العرش ، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله . وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح : " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة ، وسقفها عرش الرحمن " .
وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) الآية [ رقم : 21 ] .
وقد روينا في مسند الإمام أحمد : أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ! فأين الليل إذا جاء النهار ؟ " .
وقد رواه ابن جرير فقال : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني مسلم بن خالد ، عن أبي خثيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مرة قال : لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص ، شيخا كبيرا فسد ، قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلا عن يساره . قال : قلت : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية . فإذا كتاب صاحبي : " إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ! فأين الليل إذا جاء النهار ؟ " .
وقال الأعمش ، وسفيان الثوري ، وشعبة ، عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب ، أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال عمر [ رضي الله عنه ] أرأيتم إذا جاء الليل أين النهار ؟ وإذا جاء النهار أين الليل ؟ فقالوا : لقد نزعت مثلها من التوراة .
رواه ابن جرير من الثلاثة الطرق ثم قال : حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا جعفر بن برقان ، أنبأنا يزيد بن الأصم : أن رجلا من أهل الكتاب قال : يقولون : ( جنة عرضها السماوات والأرض ) فأين النار ؟ فقال ابن عباس : أين يكون الليل إذا جاء النهار ، وأين يكون النهار إذا جاء الليل ؟
وقد روي هذا مرفوعا ، فقال البزار : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم ، عن عمه يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت قوله تعالى : ( جنة عرضها السماوات والأرض ) فأين النار ؟ قال : " أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء ، فأين النهار ؟ " قال : حيث شاء الله . قال : " وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل " .
وهذا يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون المعنى في ذلك : أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان ، وإن كنا لا نعلمه ، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل ، وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة ، عن البزار .
الثاني : أن يكون المعنى : أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب ، فإن الليل يكون من الجانب الآخر ، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش ، وعرضها كما قال الله ، عز وجل : ( كعرض السماء والأرض ) [ الحديد : 21 ] والنار في أسفل سافلين . فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض ، وبين وجود النار ، والله أعلم
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) آل عمران
=====
آل عمران - تفسير ابن كثير
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
{
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) }
㈡يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة، كما كانوا يقولون في الجاهلية -إذا حَلّ أجل الدين: إما أن يَقْضِي وإمّا أن يُرْبِي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخَر في القَدْر، وهكذا كلّ عام، فربما (1) تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفا.
وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى (2) ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال: { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
ثم نَدَبهم إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات والمسارعة إلى نَيْل القُرُبات، فقال: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي: كما أعدّت النار للكافرين. وقد قيل: إن معنى قوله: { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } تنبيها (3) على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة: { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [الرحمن:54] أي: فما ظنك بالظهائر؟ وقيل: بل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، والشيء المُقَبَّب والمستدير عَرْضُه كطوله. وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح: "إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الجنة فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ" (4) .
وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } الآية [رقم21].
 
وقد روينا في مسند الإمام أحمد: أنّ هِرَقْل كَتَبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك دَعَوْتني إلى جنة عَرْضُها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال النبي (5) صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللهِ! فأين (6) الليل إذَا جَاءَ النَّهَارُ؟" (7) .
وقد رواه ابنُ جرير فقال: حدثني يونس، أنبأنا ابنُ وَهْب، أخبرني مسلم بن خالد، عن أبي=
__________
(1)
في ر: "وربما".
(2)
في أ: "الآخرة".
(3)
في ر: "تنبيه".
(4)
صحيح البخاري برقم (2790) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
في جـ، ر: "رسول الله".
(6)
في و: "أين".
(7)
المسند (3/442) من حديث التنوخي. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/15): "هذا حديث غريب تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به".
(2/117)
= خُثَيم، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى بن مُرَّة (1) قال: لَقِيت التَّنوخي رَسُولَ هِرَقْل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحِمْص، شيخا كبيرا فَسَدَ، قال: قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هِرَقْل، فنَاول الصحيفة رَجُلا عن يساره. قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية. فإذا كتاب صاحبي: "إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين، فأين النار؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ الله! فأيْنَ اللَّيْلُ إذَا جَاءَ النَّهَارُ؟" (2) .
وقال الأعمش، وسفيان الثوري، وشُعْبَة، عن قيس بن مسلم (3) عن طارق بن شهاب، أن ناسا من اليهود سألوا عُمَرَ بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال عمر [رضي الله عنه] (4) أرأيتم إذا جاء الليل أين النهار؟ وإذا جاء النهار أين الليل؟ فقالوا: لقد نزعت مثْلَها من التوراة.
رواه ابن جرير من الثلاثة الطرق (5) (6) ثم قال: حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا أبو نعيم، حدثنا جعفر بن بُرْقَان، أنبأنا يزيد بن الأصم: أن رجلا من أهل الكتاب قال: يقولون: { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } فأين النار؟ فقال ابن عباس: أين يكون الليل إذا جاء النهار، وأين يكون النهار إذا جاء الليل؟ (7) .
 
وقد رُوي هذا مرفوعا، فقال البَزّار: حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم، عن عَمّه يزيد بن الأصَم، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قوله تعالى: { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } فأين النار؟ قال: "أرَأيْتَ اللَّيْلَ إذا جَاءَ لَبسَ كُلَّ شَيْءٍ، فَأيْنَ النَّهَار؟" قال: حيث شاء الله. قال: "وَكَذِلَكَ (8) النَّارُ تكون حيث شاء الله عز وجل" (9) .
وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك: أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل، وهذا (10) أظهر كما تقدم في (11) حديث أبي هريرة، عن (12) البزار.
الثاني: أن يكون المعنى: أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليّين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله، عز وجل: { كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [الحديد:21] والنار في أسفل سافلين. فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض، وبين وجود النار، والله أعلم.==
__________
(1)
في ق: "أبي مرة" وهو خطأ".
(2)
تفسير الطبري (7/211، 212).
(3)
في أ: "سلمة".
(4)
زيادة من أ.
(5)
في جـ، ر: "طرق".
(6)
تفسير الطبري (7/211، 212).
(7)
في جـ، ر، أ، و: "فقال ابن عباس: أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار، وإذا جاء النهار أين يكون الليل".
(8)
في أ: "فلذلك"، وفي و: "فكذلك".
(9)
ورواه الحاكم في المستدرك (1/36) من طريق محمد بن معمر عن المغيرة به. وقال: "على شرطهما ولم يخرجاه ولا أعلم له علة"ووافقه الذهبي.
(10)
في أ: "فهذا".
(11)
في أ: "من".
(12)
في أ: "عند".
(2/118)
== ثم ذكر تعالى صَفَة أهل الجنة، فقال: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ } أي: في الشدة والرخاء، والمَنْشَط والمَكْرَه، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال، كما قال: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً } [البقرة:274]. والمعنى: أنهم لا يشغلهم أمْر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مَرَاضِيه، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر.
وقوله: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي: إذا ثار بهم الغيظ كظموه، بمعنى: كتموه فلم يعملوه، وعَفَوْا (1) مع ذلك عمن أساء إليهم (2) وقد ورد في بعض الآثار: "يقول الله تعالى: ابنَ آدَمَ، اذْكُرْنِي إذَا غَضِبْتَ، أَذْكُرُكَ إذَا غَضِبْتُ، فَلا أُهْلِكُكَ (3) فيمن أهْلِكَ" رواه ابن أبي حاتم (4) .
وقد قال أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الزّمن، حدثنا عيسى بن شُعَيب الضَّرِير أبو الفضل، حدثنا (5) الربيع بن سليمان الجيزي (6) عن أبي عمرو بن أنس بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ، وَمَنْ خزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إلَى اللهِ قَبِلَ عُذْرَهُ" [و] (7) هذا حديث غريب، وفي إسناده نظر (8) .
 
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لَيْسَ الشَّدِيدُ (9) بِالصُّرُعة، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ (10) الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ". وقد رواه الشيخان من حديث مالك (11) .
 
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم التَّيْميّ، عن الحارث بن سُوَيد، عن عبد الله، هو ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ مَالِهِ؟" قال: قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا مَالهُ أحب إليه من مال وارثه. قال: "اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ مَالهِ مَالَكَ مِنْ مَالَكَ إلا مَا قَدَّمَتْ، ومَالُ وَارِثَكَ مَا أخَّرْتَ". قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ الصُّرعَة؟" قلنا: الذي لا تَصْرَعه (12) الرجال، قال: قال "لا ولكن الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ". قال: قال (13) رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ الرَّقُوبَ؟" قال: قلنا: الذي لا ولد له. قال: "لا ولكن الرَّقُوبَ الَّذِي لم (14) يُقَدِّمْ مِنْ ولَدِهِ شَيْئًا".==
__________
(1)
في أ: "وعفا".
(2)
في أ، و: "إليه".
(3)
في ر: "أهلك".
(4)
لم أجده في تفسيره.
(5)
في جـ، ر: "حدثني".
(6)
في أ، و: "النميري". وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه من الجرح والتعديل 3/464.
(7)
زيادة من أ، و.
(8)
ورواه الخرائطي في مساوئ الأخلاق برقم (329) وابن أبي عاصم في الزهد برقم (47) من طريق الربيع عن أبي عمرو مولى أنس عن أنس به. ووقع عند الخرائطي "الربيع بن مسلم" ولعله تصحيف. قال الهيثمي في المجمع (10/298): "وفيه الربيع بن سليمان الأزدي وهو ضعيف" وللحديث طريق آخر عن أنس يرويه الفضل بن العلاء عن سفيان عن حميد عن أنس به، وأخرجه الضياء المقدسي في المختارة برقم (2066، 2067) وقال: "الفضل ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا". قلت: نقل ابن أبي حاتم عن أبيه (7/65): "شيخ يكتب حديثه"، ووثقه ابن معين وابن المديني.
(9)
في جـ، ر، أ، و: "الشدة".
(10)
في جـ، ر، أ، و: "الشدة".
(11)
المسند (2/236) وصحيح البخاري برقم (6114) وصحيح مسلم برقم (2609).
(12)
في جـ: "يصرعه".
(13)
في أ، و: "قال: وقال".
(14)
في جـ، ر: "لا".
(2/119)
أخرج البخاري الفصل الأول منه وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش، به (1) .
==حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبة، سمعت عُرْوة بن عبد الله الجَعْفِيّ يحدث عن أبي حصبة، أو ابن حصبة، عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: "تَدْرُونَ مَا الرَّقُوبُ؟" قالوا (2) الذي لا ولد له. قال: "الرَّقُوبُ كُلُّ الرَّقُوبِ الَّذِي لَهُ وَلَدٌ فَمَاتَ، وَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُمْ شَيْئًا". قال: "تَدْرُونَ مَا الصُّعْلُوكُ؟" قالوا: الذي ليس له مال. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصُّعْلُوكُ كُلُّ الصُّعْلُوكِ الَّذِي لَهُ مَالٌ، فَمَاتَ وَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُ شَيْئًا". قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا الصُّرَعَةُ؟" قالوا: الصريع. قال: فقال (3) صلى الله عليه وسلم الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ، وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ" (4) .
✅ حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نُمَيْر، حدثنا هشام -هو ابن عروة-عن أبيه، عن الأحنف بن قيس، عن عم له يقال له: جَارية بن قُدامة السعدي؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قل لي قولا ينفعني وأقْلِل عليّ، لعلي أعيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَغْضَبْ". فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا، كل ذلك يقول: "لا تَغْضَبْ".
وكذا رواه عن أبي معاوية، عن هشام، به. ورواه [أيضا] (5) عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام، به؛ أن رجلا قال: يا رسول الله، قل لي قولا وأقْلِل علَيَّ لَعَلّي أعقِله. قال: "لا تَغْضَبْ".
الحديث انفرد به أحمد (6) .
حديث آخر: قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن حُمَيد بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: يا رسول الله، أوصني. قال: "لا تَغْضَبْ". قال الرجل: ففكرت حين قال (7) صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله.
انفرد به أحمد (8) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا داود بن أبي هِنْد عن بن أبي حَرْب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود، عن أبي ذَرّ قال: كان يسقي على حوض له، فجاء قوم قالوا (9) أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه فقال رجل: أنا. فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه، وكان أبو ذر قائما فجلس، ثم اضطجع، فقيل له: يا أبا ذر، لم جلست ثم اضطجعت؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فإن (10) ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلا فَلْيَضْطَجِعْ".
ورواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل بإسناده، إلا أنه وقع في روايته: عن أبي حرب، عن أبي
__________
(1)
المسند (1/382) وصحيح البخاري برقم (6442).
(2)
في أ: "قال".
(3)
في جـ، ر: "فقال النبي".
(4)
المسند (5/367) وقال الهيثمي في المجمع (8/69): "فيه أبو حصبة أو ابن عصبة ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".
(5)
زيادة من و.
(6)
المسند (5/34) وقال الهيثمي في المجمع (8/69): "رجاله رجال الصحيح".
(7)
في جـ، ر، أ، و: "قال النبي".
(8)
المسند (5/373) وقال الهيثمي في المجمع (8/69): "رجاله رجال الصحيح".
(9)
في جـ، ر: "فقالوا".
(10)
في جـ، أ: "فإذا".
(2/120)
ذر، والصحيح: ابن أبي حرب، عن أبيه، عن أبي ذر، كما رواه عبد الله بن أحمد، عن أبيه (1) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد: حدثنا أبو وائل الصَّنْعَاني قال: كنا جلوسا عند عرْوة بن محمد إذ دخل عليه رجل، فكلمه بكلام أغضبه، فلما أن غضب قام، ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال: حدثني أبي، عن جدي عطية -هو ابن سعد السعدي، وقد كانت له صحبة-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وإنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ (2) وإنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالماءِ، فَإذَا أُغْضِبَ (3) أحَدُكُمْ فَلْيَتَوضَّأْ".
وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنْعَاني، عن أبي وائل القاص (4) المُرَادي الصَّنْعَاني: قال أبو داود: أراه عبد الله بن بَحير (5) (6) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا نوح بن جَعْوَنة السُّلَمي، عن مقاتل بن حَيَّان، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، ألا إنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوُةٍ -ثلاثا-ألا إنَّ عَمَلَ النَّار سَهْلٌ بسَهْوة. والسَّعِيدُ مَنْ وقيَ الفِتَنَ، ومَا مِنْ جَرْعَةٍ أحَبُّ إلَى اللهِ [عز وجل] (7) مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ للهِ (8) إلا مَلأ (9) جَوْفُه إيمَانًا".
انفرد به أحمد، إسناده حسن ليس فيه (10) مجروح، ومتنه حسن (11) .
حديث آخر في معناه: قال أبو داود: حدثنا عقبة بن مُكرَم، حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مَهْدي-عن بشر -يعني ابن منصور-عن محمد بن عَجْلان، عن سُوَيد بن وَهْب، عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنْفِذَه مَلأهُ اللهُ أَمْنًا وَإيمانًا، وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَال وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْه -قال بِشر: أحسبه قال: "تَوَاضُعًا"-كَسَاهُ اللهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، وَمَنْ زَوَّجَ للهِ كَسَاهُ اللهُ تَاجَ الْمُلْكِ" (12) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يَزيد، حدثنا سعيد، حدثني أبو مَرْحُوم، عن سَهْل بن مُعَاذ بن أنس، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَه، دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ، حَتَّى يُخيرَهُ مِنْ أيِّ الْحُورِ شَاءَ".
ورواه أبو داود والترمذي، وابن ماجة، من حديث سعيد بن أبي أيُّوب، به. وقال الترمذي: حسن غريب (13) .
__________
(1)
المسند (5/152) وسنن أبي داود برقم (4782، 4783).
(2)
في و: "من نار".
(3)
في جـ، ر، أ، و: "غضب".
(4)
في جـ، أ: "العاص"، وفي ر: "العلص".
(5)
في جـ: "جبير".
(6)
المسند (4/226) وسنن أبي داود برقم (4784).
(7)
زيادة من أ.
(8)
في أ، و: "ما كظم عبد الله".
(9)
في ر، أ، و: "ملأ الله".
(10)
في أ، و: "فيهم".
(11)
المسند (1/327).
(12)
سنن أبي داود برقم (4778).
(13)
المسند (3/440) وسنن أبي داود برقم (4777) وسنن الترمذي برقم (2021، 2493) وسنن ابن ماجة برقم (4186).
(2/121)
حديث آخر: قال: عبد الرزاق: أخبرنا داود بن قَيْس، عن زيد بن أسلم، عن رجل من أهل الشام -يقال له: عبد الجليل-عن عم له، عن أبي هريرة في قوله تعالى: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كظم غيظا، وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا". رواه ابن جرير (1) .
حديث آخر: قال ابن مَرْدُويَه: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، أخبرنا يحيى بن أبي طالب، أخبرنا علي بن عاصم، أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تَجَرَّعَ عبد من جُرْعَةٍ أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله".
وكذا رواه ابن ماجة عن بشر بن عمر، عن حَمَّاد بن سلمة، عن يونس بن عُبَيد، به (2) .
فقوله: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أي: لا يعملون (3) غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل.
ثم قال [تعالى] (4) { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي: مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى (5) في أنفسهم (6) مَوجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } فهذا من مقامات الإحسان.
وفي الحديث: "ثلاث أُقْسِمُ عليهن: 1.ما نقص مال من صدقة، 2.وما زاد الله عبدا بعفو إلا عِزا، 3.ومن تواضع لله رفعه الله " (7) .
وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عُقبة، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القُرشي، عن عُبَادة بن الصامت، عن أبي بن كعب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يُشْرَف له البنيان، وترفع له الدرجات فَلْيَعْفُ عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويَصِلْ من قطعه".
ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (8) وقد أورده ابن مردويه من حديث علي، وكعب بن عُجْرة، وأبي هريرة، وأم سلمة، بنحو ذلك. وروي عن (9) طريق الضحاك، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس؟ هَلُمُّوا إلى ربكم، وخذوا أجوركم، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة
".
وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } أي:
__________
(1)
تفسير عبد الرزاق (1/136) وتفسير الطبري (7/216) ورواه البخاري في التاريخ الكبير (5/123) وقال: "عبد الجليل لا يتابع عليه".
(2)
سنن ابن ماجة برقم (4189) ورواه أحمد في مسنده (2/128) من طريق علي بن عاصم عن يونس بن عبيد، به.
(3)
في جـ: "أي يعلمون"، وفي ر: "أي لا يعلمون".
(4)
زيادة من جـ.
(5)
في و: "تبقى".
(6)
في أ: "نفوسهم".
(7)
رواه الترمذي في السنن برقم (2325) من حديث أبي كبشة الأنماري.
(8)
المستدرك (2/295) وتعقبه الذهبي فقال: "فيه أبي أمية بن يعلى ضعفه الدارقطني وإسحاق بن يحيى بن طلحة عن عبادة عن أبي، وإسحاق لم يدرك عبادة". ورواه الطبراني في الكبير (1/167) من طريق أبي أمية بن يعلى عن موسى بن عقبة، به.
(9)
في ر، أ، و: "من".
(2/122)
إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا هَمّام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلا أذنب ذَنْبًا، فقال: رب (1) إني أذنبت ذنبا فاغفره. فقال الله [عز وجل] (2) عبدي عمل ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب، إني عملت ذنبا فاغفره. فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رَبا يغفر الذنب وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرَتْ لِعَبْدِي. ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ: رَبِّ، إنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لي. فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ: عَلِمَ عَبْدَي أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرَتُ لِعَبْدِي ثُمَّ عَمِلَ ذَنَبًا آخَرَ فَقَالَ: رَبِّ، إنِّي عَمِلَتُ ذَنَبًا فَاغْفِرْهُ (3) فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ: عَبْدِي عَلِمَ (4) أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ".
أخرجه (5) في الصحيح من حديث إسحاق (6) بن أبي طلحة، بنحوه (7) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالا حدثنا زهير، حدثنا سعد الطائي، حدثنا أبو الْمُدِلَّة -مولى أم المؤمنين-سمع أبا هريرة، قلنا: يا رسول الله، إذا رأيناك رقَّت قلوبُنا، وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَمِمْنا النساء والأولاد، فقال (8) لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِي، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ ، وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يُغْفَرَ لَهُمْ". قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَدِّثْنَا عَنْ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ:"لَبِنَةُ ذَهَبٍ ، وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ ، وَمِلاطُهَا الْمِسْكُ الأذْفَرُ ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلا يَبْأَسُ ، وَيَخْلُدُ وَلا يَمُوتُ ، لا تَبْلَى ثِيَابُهُ ، وَلا يَفْنَى شَبَابُهُ ، ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الإمَامُ الْعَادِلُ ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَح (9) لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ : وَعِزَّتِي لأنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ" .
ورواه الترمذي، وابن ماجة، من وجه آخر من سعد، به (10) .
ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل:
حدثنا وَكِيع، حدثنا مِسْعَر، وسفيان -هو الثوري-عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن علي بن ربيعة، عن أسماء بن (11) الحكم الفزاري، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال : كنت إذا
__________
(1)
في جـ: "يا رب".
(2)
زيادة من جـ، ر، أ، و.
(3)
في جـ: فاغفره لي".
(4)
في جـ: "علم عبدي".
(5)
في جـ، ر، أ، و: "أخرجاه".
(6)
في جـ: "إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة".
(7)
المسند (2/296) وصحيح البخاري رقم (5707) ورواه مسلم في صحيحة برقم (2758) من طريق إسحاق بن عبد الله، به.
(8)
في ج: "قال".
(9)
في جـ، ر: "ويفتح".
(10)
المسند (2/304، 305) وسنن الترمذي برقم (3598)، وسنن ابن ماجة برقم (1752).
(11)
في ر: "بنت".
(2/123)
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا (1) نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه [غيري استَحْلفْتُه، فإذا حلف لي صَدقته، وإن أبا بكر رضي الله عنه حَدثني] (2) وصدَق أبو بكر -أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ -الوُضُوءَ -قال مِسْعر: فَيُصَلّي. وقال سفيان: ثم يُصلِّي ركعتين -فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ عز وجَلَّ إلا غَفَرَ لَهُ".
كذا (3) رواه علي بن المَديني، والحُمَيْدي وأبو بكر بن أبي شيبة، وأهل السنن، وابن حِبَّان في صحيحه والبزار والدارقُطْني، من طرق، عن عثمان بن المغيرة، به. وقال الترمذي: هو حديث حسن (4) وقد ذكرنا طُرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق، [رضي الله عنه] (5) وبالجملة فهو حديث حسن، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (6) عن خليفة النبي [صلى الله عليه وسلم] (7) أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما (8) ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيَبْلُغَ -أو: فَيُسْبِغَ -الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيّهَا شَاءَ" (9) .
وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أنه توضأ لهم وُضُوء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ تَوضَّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيْهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (10) .
فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، عن سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين، كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين.
وقد قال عبد الرزاق: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: بلغني أن إبليس حين نزلت: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } الآية، بَكَى (11) .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا مُحْرِز بن عَون، حدثنا عثمان بن مطر، حدثنا عبد الغفور، عن أبي نُضَيْرة عن أبي رجاء، عن أبي بكر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَلَيْكُمْ بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار، فأكْثرُوا مِنْهُمَا، فإنَّ إبْليسَ قَالَ: أهْلَكْتُ النَّاسَ بالذُّنُوبِ، وأهْلَكُونِي بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار، فَلَمَّا رَأيْتُ ذَلِكَ أهْلَكْتُهُمْ بِالأهْوَاءِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُم مُهْتَدُونَ".
عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان (12) .
__________
(1)
في جـ: "سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(2)
زيادة من جـ، والمسند.
(3)
في جـ، ر، أ، و: "وهكذا".
(4)
المسند (1/2، 10) وسنن ابن ماجة برقم (1395) ومسند الحميدي برقم (4) ومصنف ابن أبي شيبة (2/387) ومسند البزار برقم (8) والعلل للدارقطني برقم (8) وقد توسع الدارقطني في الكلام عليه.
(5)
زيادة من و.
(6)
زيادة من و.
(7)
زيادة من جـ، أ، و.
(8)
في أ، و: "عنه".
(9)
صحيح مسلم برقم (234).
(10)
صحيح البخاري برقم (159، 164، 1934) وصحيح مسلم برقم (226، 232).
(11)
تفسير عبد الرزاق (1/137) وتفسير الطبري (7/220) وليس فيها أنس بن مالك.
(12)
مسند أبي يعلى (1/124) قال الهيثمي في المجمع (10/207): "فيه عثمان بن مطر وهو ضعيف".
(2/124)
وروى الإمام أحمد في مسنده، من طريق عَمْرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوَارِيّ، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ إبْلِيسُ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتكَ لا أزَالُ أغْوي [عِبَاَدكَ] (1) ما دامت أرْوَاحُهُمْ فِي أجْسَادِهِمْ. فَقَالَ اللهُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي ولا أزَالُ أغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي" (2) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثني، حدثنا عُمر بن أبي خليفة، سمعت أبا بَدْر يحدث عن ثابت، عن أنس قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله (3) ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَذْنَبْتَ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ". [قال: فإني أستغفر، ثم أعود فأُذْنِب. قال (4) فَإذا (5) أَذْنَبْتَ فَعُدْ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ] (6) " فقالها في الرابعة فقال: "اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ المحسُورُ" (7) .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه (8) .
وقوله: { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ } أي: لا يغفرها أحد سواه،

 كما قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن مُصْعَب، حدثنا سلام بن مسكين، والمبارك، عن الحسن، عن الأسود بن سَرِيع؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال: اللهمُ إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَرَفَ الْحقَّ لأهْلِهِ" (9) .
وقوله: { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقْلِعِين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي، رحمه اللهُ، في مسنده:
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا: حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحِمَّانيّ، عن عثمان بن واقد عن أبي نُصَيْرَةَ، عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً".
ورواه أبو داود، والترمذي، والْبَزَّار في مسنده، من حديث عثمان بن واقد -وقد وثقه يحيى بن معين-به وشيخه أبو نصيرة (10) الواسطي واسمه مسلم بن عبيد، وثقه الإمام أحمد وابن حبان وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك، فالظاهر إنما [هو] (11) لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضر؛ لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلى [أبي بكر] (12) الصديق، فهو حديث حسن (13) والله أعلم.
__________
(1)
عن المسند، وفي جـ، ر، أ: "أغويهم".
(2)
المسند (3/76).
(3)
في جـ، ر: "يا رسول الله إني".
(4)
في جـ، ر: "فقال".
(5)
في أ، و: "إذا".
(6)
زيادة من جـ، ر، ومسند البزار.
(7)
مسند البزار برقم (3249) "كشف الأستار".
(8)
ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (7090) من طريق عمر بن أبي خليفة به. وقال الهيثمي في المجمع (10/201): "رواه البزار وفيه بشارة بن الحكم الضبي ضعفه غير واحد. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به وبقية رجاله وثقوا".
(9)
المسند (3/345).
(10)
في جـ: "أبو بصيرة"، وفي ر: "أبو نصر".
(11)
زيادة من جـ، ر، أ، و.
(12)
زيادة من جـ، أ.
(13)
مسند أبي يعلى (1/124) وسنن أبي داود برقم (1514) وسنن الترمذي برقم (3559) ومسند البزار برقم (93).
(2/125)
==قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
وقوله: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عُمَير: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن من تاب تاب الله عليه.
وهذا كقوله تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [التوبة:104] وكقوله (1) { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء:110] ونظائر هذا كثيرة جدا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا جرير، حدثنا حبان -هو ابن زيد الشَّرْعَبيّ-عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال-وهو على المنبر-: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، وَيْلٌ لأقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ للْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصرونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ".
تفرد به أحمد، رحمه الله (2) .
ثم قال تعالى -بعد وصفهم بما وصفهم به-: { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ } أي: جزاؤهم على هذه الصفات مغفرة من الله (3) وجنات { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي: من أنواع المشروبات { خَالِدِينَ فِيهَا } أي: ماكثين فيها { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } يمدح تعالى الجنة.
{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) }
__________
(1)
في أ: "قوله".
(2)
المسند (2/165).
(3)
في و: "من ربهم".
(2/126) 
=========
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)/الانبياء
===========
الأنبياء - تفسير ابن كثير
=== وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) } .
قال ابن إسحاق، عن مُرّة، عن ابن مسعود: كان ذلك الحرث كرمًا قد نَبَتَتْ عناقيده. وكذا قال شُرَيْح.
قال ابن عباس: النَّفْشُ: الرعي.
وقال شُرَيح، والزهري، وقتادة: النَّفْشُ بالليل. زاد قتادة: والهَمْلُ بالنهار.
قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب وهارون بن إدريسَ الأصم قالا حدثنا المحاربي، عن أشعت، عن أبي إسحاق، عن مُرّة، عن ابن مسعود في قوله: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } قال: كرم قد أنبتت عناقيده، فأفسدته. قال: فقضى داود بالغَنَم لصاحب الكَرْم، فقال سليمان: غيرُ هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيُصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } .
وهكذا روى العَوْفي، عن ابن عباس.
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، حدثنا (1) خليفة، عن ابن عباس قال: فحكم (2) داود بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرِّعاء معهم الكلاب، فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم؟
فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيتُ بغير هذا! فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم؟ قال (3) أدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ويبذُر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثلَ حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرثَ وردوا الغنم إلى أصحابها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا خُدَيْج، عن أبي إسحاق، عن مُرَّة، عن مسروق قال: الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت فيه الغنم، فلم تَدَع فيه ورقة ولا عنقودًا من عنب إلا أكلته، فأتوا داود، فأعطاهم رقابها، فقال سليمان: لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها (4) أهلُ الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه (5) حتى يعود كالذي كان ليلة نَفَشت فيه الغنم، ثم يُعطَى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم.
__________
(1)
في ف: "حدثني".
(2)
في ف، أ: "قضى".
(3)
في ف: "فقال" .
(4)
في ف: "فتعطى".
(5)
في ف: "فيعمره ويصلحوه
".
(5/355)

وهكذا قال شُرَيح، ومُرَّة، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد وغير واحد.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي زياد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا إسماعيل، عن عامر، قال: جاء رجلان إلى شُرَيح، فقال أحدهما: إن شاة هذا قطعت غزلا لي، فقال شريح: نهارًا أم ليلا؟ فإن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشاة، وإن كان ليلا ضَمِن، ثم قرأ: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ } الآية.
وهذا الذي قاله شُرَيح شبيه بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث الليث بن سعد، عن الزهري، عن حَرام بن مُحَيْصة (1) ؛ أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطًا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها (2) . وقد عُلِّل هذا الحديث، وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب "الأحكام" وبالله التوفيق.
وقوله: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن حميد؛ أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى، قال (3) ما يبكيك؟ قال (4) يا أبا سعيد، بلغني أن القضاة: رجل اجتهد فأخطأ، فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان، عليهما السلام، والأنبياء حكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود. ثم قال -يعني: الحسن-: إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثًا: لا يشترون به ثمنًا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى، ولا يخشون فيه أحدًا، ثم تلا { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (5) ] } [ص:26] وقال: { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة:44] ، وقال { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } [ المائدة:44] .
قلت: أما الأنبياء، عليهم السلام، فكلهم معصومون مُؤيَّدون من الله عز وجل. وهذا مما لا خلاف (6) فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري، عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران،
__________
(1)
في ف: "عن حرام عن الزهري بن محيصة".
(2)
المسند (5/435) وسنن أبي داود برقم (3570) وسنن ابن ماجه برقم (2332).
تنبيه: هذا الطريق إنما هو طريق ابن ماجه، أما أحمد فرواه عن مالك وسفيان ومعمر عن الزهري، وأما أبو داود فرواه عن معمر والأوزعي عن الزهري.
(3)
في ف، أ: "فقال".
(4)
في ف، أ: "فقال"
(5)
زيادة من ف، أ.
(6)
في ف: "ما لا اختلاف فيه".
(5/356)
وإذا اجتهد فأخطأ (1) فله أجر" (2) فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه "إياس" من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار، والله أعلم.
وفي السنن: "القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، وقاضيان في النار: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار (3) .
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده، حيث قال: حدثنا علي بن حَفْص، أخبرنا وَرْقاء عن أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابنان لهما، جاء (4) الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا. فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها، لا تَشُقه، فقضى به للصغرى" (5) .
وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما (6) وبوّب عليه النسائي في كتاب القضاء:(باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق) (7) .
وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة "سليمان عليه السلام" من تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشر، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس -فذكر قصة مطولة (8) ملخصها-: أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم، فامتنعت على (9) كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عليها عند داود، عليه السلام، أنها مَكَّنت من نفسها كلبًا لها، قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها. فلما كان عشية ذلك اليوم، جلس سليمان، واجتمع معه وِلْدانٌ، مثله، فانتصب حاكمًا وتزيا أربعة منهم بزيّ أولئك، وآخر بزيّ المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكَنت من نفسها كلبًا، فقال سليمان: فرقوا بينهم. فقال لأولهم: ما كان لون الكلب؟ فقال: أسود. فعزله، واستدعى الآخر فسأله عن لونه، فقال: أحمر. وقال الآخر: أغبش. وقال الآخر: أبيض. فأمر بقتلهم، فحكي ذلك لداود، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة، فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب، فاختلفوا عليه، فأمر بقتلهم (10) .
__________
(1)
في ف: "وأخطأ".
(2)
صحيح البخاري برقم (7352) .
(3)
سنن أبي داود برقم (3573) وسنن النسائي الكبرى برقم (5922) وسنن ابن ماجه برقم (2315)
(4)
في ف: "إذ جاء".
(5)
المسند (2/322)
(6)
في ف: "صحيحيهما".
(7)
صحيح البخاري برقم (6769) وصحيح مسلم برقم (1720) وسنن النسائي الكبرى برقم (5958) والباب فيه "التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين له الحق".
(8)
في ف: "طويلة".
(9)
في أ: "عن".
(10)
تاريخ دمشق (7/565 "المخطوط")
(5/357)
وقوله: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا تَرَنَّم به تقف الطير في الهواء، فتجاوبه، وتَرد عليه الجبال تأويبًا؛ ولهذا لمَّا مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري، وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيب [جدًا] (1) . فوقف واستمع لقراءته، وقال: "لقد أوتي هذا مزامير آل داود". قال يا رسول الله، لو علمت أنك تسمع (2) لحبرته لك تحبيرًا (3) .
وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صَنْج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه، ومع هذا قال: لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود.
وقوله: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ (4) مِنْ بَأْسِكُمْ } يعني صنعة الدروع.
قال قتادة: إنما كانت الدروع قبله صفائح، وهو أول من سردها حلَقًا. كما قال تعالى: { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } [سبأ:10، 11] أي: لا توسع الحلقة فتقلق (5) المسمار، ولا تغلظ المسمار فتَقَدّ الحَلْقة؛ ولهذا قال: { لِيُحْصِنَكُمْ (6) مِنْ بَأْسِكُمْ } يعني: في القتال، { فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } أي: نعم الله عليكم، لما ألهم به عبده داود، فعلمه ذلك من أجلكم.
وقوله: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً } أي: وسخرنا لسليمان الريح العاصفة، { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني أرض الشام، { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } وذلك أنه كان له بساط من خشب، يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة، والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته، ثم تحمله فترفعه وتسير به، وتظله الطير من الحر، إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل وتوضع آلاته وخشبه (7) ، قال الله تعالى: { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } [ص:36] ، وقال { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ :12] .
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن سفيان بن عيينة، عن أبي سِنَان، عن سعيد بن جبير قال: كان يُوضَع لسليمان ستمائة ألف كرسي، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم (8) .
وقال عبد الله بن عُبَيْد بن عمير: كان سليمان يأمر الريح، فتجتَمع كالطَّود العظيم، كالجبل، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها، ثم يدعو بفَرَس من ذوات الأجنحة، فترتفع (9) حتى تصعد (10) على فراشه، ثم يأمر الريح فترتفع به كُل شَرَف دون السماء، وهو مطأطئ رأسه، ما يلتفت يمينا ولا شمالا تعظيمًا لله عز وجل، وشكرًا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله
__________
(1)
زيادة من ف، أ.
(2)
في ف: "تستمع".
(3)
سبق الحديث في فضائل القرآن.
(4)
في ف، أ: "لتحصنكم".
(5)
في ف: "فتفلق".
(6)
في ف، أ: "لتحصنكم".
(7)
في أ: "وحشمه"
(8)
في أ: "فتحملهم عليه السلام".
(9)
في ف، أ: "فيرتفع".
(10)
في ف، أ: "يصعد".
(5/358)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
تعالى (1) حتى تضعه (2) . الريح حيث شاء أن تضعه (3)
وقوله: { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ } أي: في الماء يستخرجون اللآلئ [وغير ذلك. { وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ } أي: غير ذلك، كما قال تعالى: { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * ] (4) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ } . [ص: 37، 38] .
وقوله: { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } (5) أي: يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه، بل هو مُحَكَّم (6) فيهم، إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء؛ ولهذا قال: { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ }
{
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) } .
يذكر تعالى عن أيوب، عليه السلام، ما كان أصابه من البلاء، في ماله وولده وجسده (7) ، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثيرة، ومنازل مرضية. فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده -يقال: بالجذام في سائر بدنه، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس، وأفردَ في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد (8) يحنو عليه سوى زوجته، كانت تقوم بأمره (9) ، ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل" (10) وفي الحديث الآخر: "يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه" (11) .
وقد كان نبي الله أيوب، عليه السلام، غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك.
وقال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب، عليه السلام، بذهاب الأهل والمال والولد، ولم له يبق شيء، أحسن الذكر، ثم قال: أحمدك رب الأرباب، الذي أحسنت إلي، أعطيتني المال والولد، فلم يبق من قلبي شعبة، إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني، وفرَّغت قلبي، ليس يحول بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت، حسدني. قال: فلقي إبليس من ذلك منكرًا.
قال: وقال أيوب، عليه السلام: يا رب، إنك أعطيتني المال والولد، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته، وأنت تعلم ذلك. وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول لنفسي:
__________
(1)
في ف، أ: "عز وجل".
(2)
في ف: "يضعه".
(3)
في ف، أ: "حيث يشاء أن يضعه".
(4)
زيادة من ف، أ.
(5)
في ف: "له".
(6)
في ف، أ: "يحكم".
(7)
في ف: "وجسده وولده".
(8)
في ف: "أحد من الناس".
(9)
في ف: "بأوده".
(10)
رواه أحمد في المسند (1/172) والترمذي في السنن برقم (2398) وابن ماجه في السنن برقم (4023) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
(11)
هو جزء من الحديث المتقدم، والله أعلم.
(5/359)
يا نفس، إنك لم تخلقي لوطء الفرش (1) ، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم.
وقد ذكر عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة، ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه، وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين، وفيها غرابة تركناها لحال الطول (2) .
وقد روى أنه مكث في البلاء مدة طويلة، ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء، فقال الحسن وقتادة، ابتلي أيوب، عليه السلام، سبع سنين وأشهرًا، ملقى على كُنَاسَة بني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده ففرج الله عنه، وعَظَمَّ له الأجر، وأحسن عليه الثناء.
وقال وهب بن منبه: مكث في البلاء ثلاث سنين، لا يزيد ولا ينقص.
وقال السدي: تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام، فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالزاد يكون فيه، فقالت له امرأته لما طال وجعه: يا أيوب، لو دعوت ربك (3) يفرج عنك؟ فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحًا، فهل (4) قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟ فجَزَعت من ذلك فخرجت، فكانت تعمل للناس بأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه، وإن إبليس انطلق إلى رجلين من فلسطين كانا صديقين له وأخوين، فأتاهما فقال: أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا، فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما، فإنه إن شرب منه بَرَأ. فأتياه، فلما نظرا إليه بكيا، فقال: من أنتما؟ فقالا (5) : نحن فلان وفلان! فرحَّب بهما وقال: مرحبًا بمن لا يجفوني عند البلاء، فقالا يا أيوب، لعلك كنت تُسر شيئًا وتظهر غيره، فلذلك ابتلاك الله؟ فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: هو يعلم، ما أسررت شيئًا أظهرت غيره. ولكن ربي ابتلاني لينظر أأصبر أم أجزع، فقالا له: يا أيوب، اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه بَرَأت. قال: فغضب وقال جاءكما الخبيث فأمركما بهذا؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما عليّ حرام. فقاما من عنده، وخرجت امرأته تعمل للناس فخبزت لأهل بيت لهم صبي، فجعلت لهم قرصًا (6) ، وكان ابنهم نائمًا، فكرهوا أن يوقظوه، فوهبوه لها.
فأتت به إلى أيوب، فأنكره وقال: ما كنت تأتيني بهذا، فما بالك اليوم؟ فأخبرته الخبر. قال: فلعل الصبي قد استيقظ، فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله. [فانطلقي به إليه. فأقبلت حتى بلغت درجة القوم، فنطحتها شاة لهم، فقالت: تعس أيوب الخطاء! فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص، ويبكي على أهله] (7) ، لا يقبل منهم شيئًا غيره، فقالت: رحم الله أيوب فدفعت القرص إليه ورجعت. ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب، فقال لها: إن زوجك قد طال سُقمه، فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابًا فليذبحه باسم صنم بني فلان فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك. فقالت ذلك لأيوب، فقال: قد أتاك الخبيث. لله عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدة. فخرجت تسعى عليه، فحظر عنها الرزق، فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها، فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب
__________
(1)
في ف: "الفراش".
(2)
تفسير الطبري (1/42).
(3)
في ف، أ: "الله".
(4)
في أ: "فهو".
(5)
في ف، أ: "قالا".
(6)
في ف، أ: "قرصة".
(7)
زيادة من ف، أ.
(5/360)
الجوع حلقت من شعرها قرنًا فباعته من صبية من بنات الأشراف، فأعطوها طعامًا طيبًا كثيرًا فأتت به أيوب، فلما رآه أنكره وقال: من أين لك هذا؟ قالت: عملت لأناس فأطعموني. فأكل منه، فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضًا قرنًا فباعته من تلك الجارية، فأعطوها من ذلك الطعام، فأتت به أيوب، فقال: والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو؟ فوضعت خمارها، فلما رأى رأسها محلوقًا جزع جزعًا شديدًا، فعند ذلك دعا ربه عز وجل: { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا أبو عمران الجوني، عن نَوْف البِكَالي؛ أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له: "سوط" (1) ، قال: وكانت امرأة أيوب تقول: "ادع الله فيشفيك" ، فجعل لا يدعو، حتى مر به نفر من بني إسرائيل، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه، فعند ذلك قال: "رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين".
وحدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب، عليه السلام، أخوان فجاءا يومًا، فلم يستطيعا أن يدنوا منه، من ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدهما للآخر: لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا؟ فجزع أيوب من قولهما جَزعا لم يجزع من شيء قط، فقال: اللهم، إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان (2) وأنا أعلم مكان جائع، فصدقني. فصدق من السماء وهما يسمعان. ثم قال: اللهم، إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، وأنا أعلم مكان عار، فَصَدقني فصدق من السماء وهما يسمعان. اللهم (3) بعزتك ثم خر ساجدًا، ثم قال (4) اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدًا حتى تكشف عني. فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعًا بنحو هذا فقال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد، عن عُقَيل، عن الزهري، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه، كانا (5) يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تَعَلَّم -والله-لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين. فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف (6) ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب، عليه السلام: ما أدري ما تقول، غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهة أن يذكرا الله إلا في حق. قال: وكان يخرج في حاجته (7) ، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، فأوحى إلى
__________
(1)
في ف، أ: "مبسوط".
(2)
في ف: "شبعانا".
(3)
في ف، أ: "ثم قال: اتللهم".
(4)
في ف: "فقال".
(5)
في ف، أ: "له".
(6)
في ف: "فكشف".
(7)
في ف: "حاجة" .
(5/361)
أيوب في مكانه: أن اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب" (1) .
رفع هذا الحديث غريب جدًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، قال: وألبسه الله حلة من الجنة، فتنحى أيوب فجلس في ناحية، وجاءت امرأته، فلم تعرفه، فقالت: يا عبد الله، أين ذهب المبتلى الذي كان هاهنا؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب، فجعلت تكلمه ساعة، فقال: ويحك! أنا أيوب! قالت: أتسخر مني يا عبد الله؟ فقال: ويحك! أنا أيوب، قد رد الله علي جسدي.
وبه قال ابن عباس: ورد عليه ماله وولده عيانا، ومثلهم معهم.
وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى أيوب: قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرب عن صاحبتك (2) قربانًا، واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.
[
وقال] (3) أيضًا: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا همام، عن قتادة، عن النضر ابن أنس، عن بَشير (4) بن نَهِيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما عافى الله أيوب، أمطر عليه جرادًا من ذهب، فجعل يأخذ بيده ويجعله في ثوبه". قال: "فقيل له: يا أيوب، أما تشبع؟ قال: يا رب، ومن يشبع من رحمتك".
أصله في الصحيحين (5) ، وسيأتي في موضع آخر.
وقوله: { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } قد تقدم عن ابن عباس أنه قال: ردوا عليه بأعيانهم. وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس أيضًا. وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد، وبه قال الحسن وقتادة.
وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النَّجْعَة، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب، وصح ذلك عنهم، فهو مما لا يصدق ولا يكذب. وقد سماها ابن عساكر في تاريخه -رحمه الله تعالى-قال: ويقال: اسمها ليا ابنة مِنَشَّا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال: ويقال: ليا بنت يعقوب، عليه السلام، زوجة أيوب كانت معه بأرض البَثَنيَّة.
وقال مجاهد: قيل له: يا أيوب، إن أهلك لك في الجنة، فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت
__________
(1)
ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2091) "موارد" من طريق حرملة بن يحيى عن ابن وهب بنحوه.
(2)
في ف: "صحابتك".
(3)
زيادة من أ.
(4)
في ف: "بشر".
(5)
ورواه الحاكم في المستدرك (2/582) من طرق عن عمرو بن مرزوق به، وسيأتي أصل الحديث في صحيح البخاري عند تفسير الآية: 42 من سورة ص.
(5/362)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
تركناهم لك في الجنة، وعوضناك مثلهم. قال: لا بل اتركهم لي في الجنة. فتُركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا.
وقال حماد بن زيد، عن أبي عمران الجَوْني، عن نَوف البِكَالي قال: أوتي أجرهم في الآخرة، وأعطي مثلهم في الدنيا. قال: فحدثت به مُطَرَّفا، فقال: ما عرفت وجهها قبل اليوم.
وهكذا روي عن قتادة، والسدي، وغير واحد من السلف، والله أعلم.
وقوله: { رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } أي: فعلنا به ذلك رحمة من الله به، { وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } أي: وجعلناه في ذلك قدوة، لئلا يظن أهل البلاء إنما فعلنا بهم ذلك (1) لهوانهم علينا، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما (2) يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك.
{
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) } .
أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، وقد تقدم ذكره في سورة مريم، وكذلك إدريس، عليه السلام (3) وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون: إنما كان رجلا صالحًا، وكان ملكًا عادلا وحكمًا مقسطًا، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم.
وقال ابن جُرَيج، عن مجاهد في قوله: { وَذَا الْكِفْلِ } قال: رجل صالح غير نبي، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فَسُمي: ذا الكفل. وكذا روَى ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أيضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عفان، حدثنا وُهَيب، حدثنا داود، عن مجاهد قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي، حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس، فقال: من يتقبل مني بثلاث: أستخلفه يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب. قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا. فقال: أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟ قال: نعم، قال: فردهم (4) ذلك اليوم، وقال مثلها في اليوم الآخر، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل وقال (5) أنا. فاستخلفه، قال: وجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان. فأعياهم ذلك (6) ، قال: دعوني (7) وإياه، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة
__________
(1)
في ف: "إنما فعل ذلك بهم".
(2)
في ف: "فيما".
(3)
انظر: تفسير الآيات: 54-57.
(4)
في ف، أ: "فيردهم".
(5)
في ف: "فقال"
(6)
في ف، أ: "ذلك الرجل" .
(7)
في أ: "دعوني أنا وإياه".
(5/363)
-
وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة-فدق الباب، فقال: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم. قال: فقام ففتح الباب، فجعل يقص عليه، فقال: إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني، وفعلوا بي وفعلوا. وجعل يُطَول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، فقال (1) : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك. فانطلق، وراح. فكان في مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ؟ فلم يره، فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس، وينتظره ولا (2) يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ قال (3) الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له (4) فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني؟ قال: إنهم أخبث قوم، إذا عرفوا (5) أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك. وإذا قمت جحدوني. قال: فانطلق، فإذا رحت فأتني. قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينتظره (6) ولا يراه، وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعن أحدًا يَقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق عليّ النوم. فلما كان تلك الساعة أتاه (7) فقال له الرجل: وراءك وراءك؟ فقال: إني قد أتيته أمس، فذكرت له أمري، فقال: لا والله لقد أمرنا ألا ندع أحدًا يقربه. فلما أعياه نظر فرأى كُوَّة في البيت، فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل، قال: فاستيقظ الرجل فقال: يا فلان، ألم آمرك؟ فقال (8) أما من قبلي والله فلم تؤتَ، فانظر من أين أتيت؟ قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت، فعرفه، فقال: أعدو الله؟ قال: نعم، أعييتني في كل شيء، ففعلت ما تَرَى لأغضبك. فسماه الله ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به (9) .
وهكذا رواه بن أبي حاتم، من حديث زهير بن إسحاق، عن داود، عن مجاهد، بمثله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن مسلم، قال: قال ابن عباس: كان قاض في بني إسرائيل، فحضره الموت، فقال: من يقوم مقامي على ألا يغضب؟ قال: فقال رجل: أنا. فسمي ذا الكفل. قال: فكان (10) ليله جميعًا يصلي، ثم يصبح صائمًا فيقضي بين الناس -قال: وله (11) ساعة يقيلها-قال: فكان كذلك، فأتاه الشيطان عند نومته، فقال له أصحابه: ما لك؟ قال: إنسان مسكين، له على رجل حق، وقد غلبني عليه. قالوا: كما أنت حتى يستيقظ -قال: وهو فوق نائم-قال: فجعل يصيح عمدا حتى يوقظه (12) ، قال: فسمع، فقال: ما لك؟ قال: إنسان مسكين، له على رجل حق. قال: اذهب فقل له يعطيك. قال: قد أبى. قال: اذهب أنت إليه. قال: فذهب، ثم جاء من الغد، فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأسًا. قال: اذهب إليه فقل له يعطيك حقك، قال: فذهب، ثم جاء من الغد حين قال، قال: فقال له أصحابه: اخرج، فعل الله بك، تجيء كل يوم حين ينام، لا
__________
(1)
في ف: "وقال".
(2)
في ف، أ: "فلا".
(3)
في ف: "فقال".
(4)
في ف: "ففتح الباب" .
(5)
في ف، أ: "اعترفوا".
(6)
في ف: "ينتظر".
(7)
في ف: "جاءه".
(8)
في ت: "قال".
(9)
تفسير الطبري (17/59).
(10)
في ف: "فقال".
(11)
في ف: "فله".
(12)
في ف: "يغضبه".
(5/364)
تدعه ينام؟. فجعل (1) يصيح: من أجل أني إنسان مسكين، لو كنت غنيا؟ قال: فسمع أيضًا، فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فضربني. قال: امش حتى أجيء معك. قال: فهو ممسك بيده، فلما رآه ذهب معه نَثَر يده منه (2) فَفَر.
وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث، ومحمد بن قيس، وابن حُجَيرة الأكبر، وغيرهم من السلف، نحو من هذه القصة، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر (3) ، أخبرنا سعيد بن بشير، حدثنا قتادة، عن أبي كنانة بن الأخنس قال: سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر: ما كان ذو الكفل بنبي، ولكن كان -يعني: في بني إسرائيل-رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة، فسمي ذا الكفل.
وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قال: "قال أبو موسى الأشعري..." فذكره منقطعا (4) ، والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد حديثًا غريبًا فقال:
حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعد (5) مولى طلحة، عن ابن عمر قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين -حتى عدّ سبع مرات-ولكن قد سمعته أكثر من ذلك، قال: "كان الكفل من بني إسرائيل، لا يتورّع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا، على أن يَطَأها، فلما قعد منها (6) مَقعدَ الرجل من امرأته، أرعِدَت (7) وبكت، فقال: ما يبكيك؟ أكْرَهْتُك؟ قالت: لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حَمَلني عليه الحاجة. قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط؟ فَنزل (8) فقال: اذهبي فالدنانير لك. ثم قال: "والله لا يَعصي الله الكفل أبدًا. فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه: قد غفر الله للكفل" (9) .
هكذا وقع في هذه الرواية "الكفل" ، من غير إضافة، فالله أعلم. وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة (10) ، وإسناده غريب، وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كان "الكفل" ، ولم يقل: "ذو الكفل" ، فلعله رجل آخر، والله أعلم.
__________
(1)
في ف، أ: "قال: فجعل".
(2)
في أ: "منه فذهب".
(3)
في ف، أ: "أبو الجماهير".
(4)
تفسير الطبري (17/60).
(5)
في ف، أ: "سعيد".
(6)
في أ: "معها".
(7)
في أ: "ارتعدت".
(8)
في ف: "ثم نزل".
(9)
المسند (2/23).
(10)
قلت: بل أخرجه الترمذي في السنن برقم (2496) من طريق عبيد بن أسباط عن أبيه به، وقال: "هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش نحو هذا ورفعوه وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعه".
(5/365)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) } .
هذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة "الصافات" وفي سورة "ن" (1) وذلك أن يونس بن مَتَّى، عليه السلام، بعثه الله إلى أهل قرية "نينوى" ، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث. فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا (2) إليه، ورغت الإبل وفُضْلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحُمْلانها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ (3) الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس:98] .
وأما يونس، عليه السلام، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فَلَجَّجت بهم، وخافوا أن يغرقوا (4) . فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا (5) أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا، فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا، قال الله تعالى: { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [ الصافات:141]، أي: وقعت عليه القرعة (6) ، فقام يونس، عليه السلام، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله، سبحانه وتعالى، من البحر الأخضر -فيما قاله ابن مسعود-حوتًا يشق البحار، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظما؛ فإن يونس ليس لك رزقا، وإنما بطنك له يكون سجنًا.
وقوله: { وَذَا النُّونِ } يعني: الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة.
وقوله: { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } : قال الضحاك: لقومه، { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [أي: نضيق عليه في بطن الحوت. يُروَى نحو هذا عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم، واختاره (7) ابن جرير، واستشهد عليه بقوله تعالى: { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [ الطلاق:7] .
وقال عطية العَوفي: { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } (8) ، أي: نقضي عليه، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، فإن العرب تقول: قدَر وقَدّر بمعنى واحد، وقال الشاعر:
__________
(1)
سورة الصافات الآيات: (139-148) ، وسورة نون (القلم) الآيات: (48-50).
(2)
في ت: "ولجؤوا".
(3)
في ت: "العذاب".
(4)
في ت، ف: "تغرق بهم".
(5)
في ت: "فأتوا".
(6)
في ف: "فوقعت القرعة عليه".
(7)
في ت: "واختارهم".
(8)
زيادة من ت، ف، أ.
(5/366)
فَلا عَائد ذَاكَ الزّمَانُ الذي مَضَى ... تباركت ما تَقْدرْ يَكُنْ، فَلَكَ الأمْرُ ...
ومنه قوله تعالى: { فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [القمر: 12]، أي: قدر.
وقوله: { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } قال ابن مسعود: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل. وكذا روي عن ابن عباس (1) ، وعمرو بن ميمون، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن كعب، والضحاك، والحسن، وقتادة.
وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمةُ حُوت في بطن حوت (2) ، في ظلمة البحر.
قال ابن مسعود، وابنُ عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوتُ في البحار يَشُقُّها، حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع (3) يونسُ تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك وهنالكَ قال: { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ }
وقال عوف: لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى: يا رب (4) ، اتخذت لك مسجدًا (5) في موضع ما اتخذه (6) أحد.
وقال سعيد بن أبي الحسن البصري: مكث في بطن الحوت أربعين يومًا. رواهما (7) ابن جبير.
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار، عمن حدثه، عن عبد الله بن رافع -مولى أم سلمة-سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أراد الله حَبْسَ يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما، فلما انتهى به إلى أسفل البحر، سمع يونس حسًا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه، وهو في بطن (8) الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر. قال: فَسَبَّح وهو في بطن الحوت، فسمع (9) الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا، إنا نسمع صوتًا ضعيفًا [بأرض غريبة] (10) قال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عملٌ صالح؟. قال: نعم". قال: "فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال الله عز وجل: (11) { وَهُوَ سَقِيمٌ } [الصافات: 145].
ورواه ابن جرير (12) ، ورواه البزار في مسنده، من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، فذكره بنحوه، ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد (13) ، وروى ابن عبد الحق من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلمَة (14) ،
__________
(1)
في ف: "ابن مسعود".
(2)
في ف، أ: "حوت آخر".
(3)
في ت، أ: "حتى يسمع" ، وفي ف: "حتى سمع".
(4)
في ت: "رب الحوت" .
(5)
في ت: "مسجد".
(6)
في ف، أ: "ما أخده".
(7)
في ت: "رواها".
(8)
في ف: "وهو ببطن".
(9)
في ف، أ: "فسمعت".
(10)
زيادة من ف، أ.
(11)
في ت: "الله تعالى".
(12)
تفسير الطبري (17/65).
(13)
مسند البزار برقم (2254) "كشف الأستار".
(14)
في ت، ف: "مسلم".
(5/367)
عن علي مرفوعًا: لا ينبغي لعبد أن يقول: " أنا (1) خير من يونس بن متى"؛ سبح لله في الظلمات (2) .
وقد روي هذا الحديث بدون هذه الزيادة، من حديث ابن عباس، وابن مسعود، وعبد الله بن جعفر، وسيأتي أسانيدها في سورة "ن" (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب، حدثنا عمي: حدثني أبو صخر: أن يزيد الرقاشي حدثه قال: سمعت أنس بن مالك -ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-أن يونس النبي، عليه السلام، حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت، قال: "اللهم، لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين". فأقبلت هذه الدعوة تحف بالعرش (4) ، فقالت الملائكة: يا رب، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة؟ فقال: أما تعرفون ذاك (5) ؟ قالوا: لا يا رب (6) ، ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يُرفَع له عَمَلٌ متقبل (7) ، ودعوة مجابة؟. [قال: نعم] (8) . قالوا: يا رب، أَوَلا (9) ترحم ما كان يصنع (10) في الرخاء فتنجيَه من البلاء؟ قال: بلى. فأمر الحوت فطرحه في العراء (11) .
وقوله: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي: أخرجناه من بطن الحوت، وتلك الظلمات، { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } أي: إذا كانوا في الشدائد ودَعَونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب في الدعاء بها عن سيد الأنبياء، قال الإمام أحمد:
حدثنا إسماعيل بن عُمَر، حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني، حدثنا إبراهيم بن محمد (12) ابن سعد، حدثني والدي محمد عن أبيه سعد، -وهو ابن أبي وقاص -قال: مررت بعثمان بن عفان، رضي الله عنه، في المسجد، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يَردُدْ عليّ السلام، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين، هل حدث في الإسلام شيء؟ مرتين، قال: لا وما ذاك؟ قلت: لا إلا أني مررتُ بعثمان (13) آنفا في المسجد، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني، ثم لم يَرْدُد (14) علي السلام. قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه، فقال: ما منعك ألا تكون رَدَدت على أخيك
__________
(1)
في ف: "أنا عند الله خير".
(2)
كذا (ابن عبد الحق) ، وأظنه تحريف عن عبد بن حميد، إلا أني لا أجزم بذلك، وقد ذكره الهندي في كنز العمال (12/476) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر في تاريخه.
(3)
كذا قال الحافظ ابن كثير، وإنما ذكره هناك من حديث ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما.
فأما حديث ابن عباس: فرواه البخاري في صحيحه برقم (3395) ومسلم في صحيحه برقم (2377).
وأما حديث عبد الله بن جعفر: فرواه أبو داود في السنن برقم (4670).
(4)
في ت: "نحو العرش" وفي ف: "تحت العرش".
(5)
في ف: "ذلك".
(6)
في ت، ف: "يا ربنا".
(7)
في ت، ف: "متقبلا".
(8)
زيادة من ف، أ.
(9)
في ت، ف، أ: "أفلا".
(10)
في ت، ف: "يصنعه".
(11)
ورواه ابن أبي الدنيات في الفرج بعد الشدة برقم (32) من طريق أحمد بن صالح عن عبد الله بن وهب به.
(12)
في ت: "محمد بن إبراهيم".
(13)
في ف ، أ: "بعثمان بن عفان رضي الله عنه".
(14)
في ت: "يرد".
(5/368)
السلام؟ قال: ما فعلتُ. قال سعد: قلتُ: بلى (1) حتى حلفَ وحلفت، قال: ثم إن عثمان ذكرَ فقال: بلى، وأستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفا وأنا أحدّث نفسي بكلمة سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تَغْشَى بصري وقلبي غشَاوة. قال سعد: فأنا أنبئك بها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا [أول دعوة] (2) ثم جاء أعرابي فشغله، حتى قَام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إليّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا؟ أبو إسحاق؟" قال: قلت: نعم، يا رسول الله. قال: "فمه؟" قلت: لا والله، إلا أنك ذكرتَ لنا أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك. قال: "نعم، دعوةُ ذي النون، إذ هو في بطن الحوت: { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } ، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له".
ورواه الترمذي، والنسائي في "اليوم والليلة"، من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد، عن أبيه، عن سعد (3) ، به (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن كَثِير بن زيد، عن المطلب بن حنطب -قال أبو خالد: أحسبه عن مصعب، يعني: ابن سعد -عن سعد (5) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا بدعاء يونس، استُجِيب (6) له". قال أبو سعيد: يريد به { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } (7) .
وقال ابن جرير: حدثني عمران بن بَكَّار الكَلاعي، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن، حدثني بِشْر بن منصور، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن مالك -وهو ابن أبي وقاص-يقول: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اسم الله الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى، دعوةُ يونس بن متى". قال: قلت (8) : يا رسول الله، هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة، إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله عز وجل: { : فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } . فهو شرط من الله لمن دعاه به" (9) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج، حدثنا داود بن المُحَبَّر بن قَحْذَم المقدسي، عن كثير بن معبد قال: سألت الحسن، قلت: يا أبا سعيد، اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى؟ قال: ابنَ أخي، أما تقرأ القرآن؟ قول الله: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا }
__________
(1)
في ف: "ويلي".
(2)
زيادة من ف، أ، والمسند.
(3)
في ت: "ابن سعيد".
(4)
المسند (1/170) وسنن الترمذي برقم (3505) وسنن النسائي الكبرى برقم (10492).
(5)
في ت: "عن سعيد".
(6)
في ت: "استجبت".
(7)
ورواه الحاكم في المستدرك (2/584) من طريق يحيى بن عبد الحميد، وابن عدي في الكامل (6/68) من طريق أبي هشام الرفاعي كلاهما عن أبي خالد الأحمر به.
(8)
في ت، ف: "فقلت".
(9)
تفسير الطبري (17/65).
(5/369)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
إلى قوله: { الْمُؤْمِنِينَ } ، ابن أخي، هذا اسم الله الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.
{
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) } .
يخبر تعالى عن عبده زكريا، حين طلب أن يَهبَه الله ولدا، يكون من بعده نبيًا. وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة "مريم" وفي سورة "آل عمران" أيضا، وهاهنا أخصر منهما؛ { إِذْ نَادَى رَبَّهُ } أي: خفية عن قومه: { رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا } أي: لا ولدَ لي ولا وارثَ يقوم بعدي في الناس، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } دعاء وثناء مناسب للمسألة.
قال الله تعالى: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } أي: امرأته.
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: كانت عاقرا لا تلد، فولدت.
وقال عبد الرحمن بن مهدي (1) ، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: كان في لسانها طول فأصلحها الله. وفي رواية: كان في خَلْقها شيء فأصلحها الله. وهكذا قال محمد بن كعب، والسدّي. والأظهر من السياق الأول.
وقوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي: في عمل القُرُبات وفعل الطاعات، { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } قال الثوري: { رَغَبًا } فيما عندنا، { وَرَهَبًا } مما عندنا، { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي مصدقين بما أنزل الله. وقال مجاهد: مؤمنين حقا. وقال أبو العالية: خائفين. وقال أبو سِنَان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب، لا يفارقه أبدًا. وعن مجاهد أيضًا { خَاشِعِينَ } أي: متواضعين. وقال الحسن، وقتادة، والضحاك: { خَاشِعِينَ } أي: متذللين لله عز وجل. وكل هذه الأقوال متقاربة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق بن (2) عبد الله القرشي، عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر، رضي الله عنه، ثم قال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وتُثنُوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } .
__________
(1)
في ت: "ابن منبه".
(2)
في ت، ف: "عن".
(5/370)
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
=========
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)المؤمنون
===================

المؤمنون - تفسير ابن كثير
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
{
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) } .
يقول تعالى: { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ } أي: أمما وخلائق، { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } يعني (1) : بل يُؤْخَذون (2) حَسَب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ وعلمه قبل كونهم، أمة بعد أمة، وقرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، وخَلفًا بعد سلف.
{
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } : قال ابن عباس: يعني يتبع بعضهم بعضًا. وهذه كقوله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } [النحل: 36] ، وقوله: { كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ } يعني: جمهورهم وأكثرهم، كقوله تعالى: { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [يس:30] .
وقوله: { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا } أي: أهلكناهم، كقوله: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } [الإسراء: 17] .
{
وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي: أخبارًا وأحاديث للناس، كقوله: { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [الآية] (3) [سبأ: 19] [ { فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } ] (4) .
{
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) } .
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى، عليه السلام، وأخاه هارون إلى فرعون وملئه، بالآيات والحجج الدامغات، والبراهين القاطعات، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما، والانقياد لأمرهما، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، تشابهت قلوبهم، فأهلك الله فرعون وملأه، وأغرقهم في يوم واحد أجمعين، وأنزل على موسى الكتاب -وهو التوراة-فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد ما قصم الله فرعون والقبط، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ وبعد أن
__________
(1)
في ف، أ: "بل".
(2)
في ف، أ: "يوجدون".
(3)
زيادة من ف. وفي هـ: (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) .
(4)
زيادة من ف.
(5/475)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 43] .
ثم قال تعالى:
{
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) } .
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم، عليهما السلام، أنه جعلهما آية للناس: أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى.
وقوله: { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } قال الضحاك، عن ابن عباس: الربوة: المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة.
قال ابن عباس: وقوله: { ذَاتِ قَرَارٍ } يقول: ذات خصب { وَمَعِينٍ } يعني: ماء ظاهرًا (1) .
وقال مجاهد: ربوة مستوية.
وقال سعيد بن جبير: { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } : استوى الماء فيها. وقال مجاهد، وقتادة: { وَمَعِينٍ } : الماء الجاري.
ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة في أيّ أرض [الله] (2) هي ؟ فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ليس الربى إلا بمصر. والماء حين يرسل (3) يكون الربى عليها القرى، ولولا الربى غرقت القرى.
وروي عن وهب بن مُنَبِّه نحو هذا، وهو بعيد جدًّا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى: { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } ، قال: هي دمشق (4) .
قال: ورُوي عن عبد الله بن سلام، والحسن، وزيد بن أسلم، وخالد بن مَعْدان نحو ذلك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس: { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } قال: أنهار دمشق.
__________
(1)
في ف: "طاهرا".
(2)
زيادة من ف.
(3)
في ف: "يسيل".
(4)
في أ: "الدمشق".
(5/476)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ [ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ] (1) } ، قال: عيسى ابن مريم وأمه، حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها.
وقال عبد الرزاق، عن بشر بن رافع، عن أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: في قوله (2) : { : إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } قال: هي الرملة من فلسطين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفرْيابي، حدثنا رَوّاد (3) بن الجراح، حدثنا عباد بن عباد الخواص أبو عتبة، حدثنا السيباني (4) ، عن ابن (5) وَعْلَة، عن كُرَيْب السَّحولي، عن مُرَّة البَهْزِي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لرجل: "إنك ميت (6) بالربوة" فمات بالرملة. (7) وهذا حديث غريب جدًّا.
وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العَوْفِيّ، عن ابن عباس في قوله: { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } ، قال: المعين الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله تعالى: { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } [مريم: 24] .
وكذا قال الضحاك، وقتادة: { إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } : هو بيت المقدس. فهذا والله أعلم هو الأظهر؛ لأنه المذكور في الآية الأخرى. والقرآن يفسر بعضه بعضا. وهو أولى ما يفسر به، ثم الأحاديث الصحيحة، ثم الآثار.
{
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ (56) } .
يأمر تعالى عباده المرسلين، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، بالأكل من الحلال، والقيام بالصالح من الأعمال، فدل هذا على أن الحلال عَون على العمل الصالح، فقام الأنبياء، عليهم السلام، بهذا أتم القيام. وجمعوا بين كل خير، قولا وعملا ودلالة ونصحًا، فجزاهم الله عن العباد خيرًا.
قال الحسن البصري في قوله: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } قال: أما والله ما أُمِرُوا بأصفركم ولا أحمركم، ولا حلوكم ولا حامضكم، ولكن قال: انتهوا إلى الحلال منه.
وقال سعيد بن جبير، والضحاك: { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } يعني: الحلال.
__________
(1)
زيادة من ف.
(2)
في ف: "في قول الله".
(3)
في ف: "داود".
(4)
في ف، أ: "الشيباني" وهو الصحيح.
(5)
في ف، أ: "أبي" وهو الصحيح.
(6)
في ف، أ: "تموت".
(7)
فيه عباد بن عباد له مناكير.
(5/477)
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن أبي مَيْسَرَةَ بن شُرَحْبِيل: كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه.
وفي الصحيح: "ما من نبي إلا رعى الغنم". قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" (1) .
وفي الصحيح: أن داود، عليه السلام، كان يأكل من كسب يده (2) .
وفي الصحيحين: "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب القيام إلى الله قيام داود، كان (3) ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه وينام سُدسَه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يَفر إذا لاقى" (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن ضَمْرَة بن حبيب، أن أم عبد الله، أخت (5) شداد بن (6) أوس بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم، وذلك في أول النهار وشدة الحر، فرد إليها رسولها: أنَّى كانت لك الشاة؟ فقالت: اشتريتها من مالي، فشرب منه، فلما كان الغد أتته أم عبد الله أخت (7) شداد فقالت: يا رسول الله (8) ، بعثتُ إليك بلبن مَرثيةً (9) لك من طول النهار وشدة الحر، فرددت إليَّ الرسول فيه؟. فقال لها: "بذلك أمرت الرسل، ألا تأكل إلا طيبا، ولا تعمل إلا صالحا" (10) .
وقد ثبت في صحيح مسلم، وجامع الترمذي، ومسند الإمام أحمد -واللفظ له-من حديث فُضَيْل بن مرزوق، عن عَدِيّ بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، إنَّ الله طَيِّبٌ لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: 172] . ثم ذكر الرجل يطيل السفر أَشْعَثَ أَغْبَرَ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، فأنَّى يستجاب لذلك" (11) .
وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث فُضيل بن مرزوق.
__________
(1)
صحيح البخاري برقم (2262) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
صحيح البخاري برقم (2073) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
في ف: "وكان".
(4)
صحيح البخاري برقم (1131) وصحيح مسلم برقم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(5)
في أ: "بنت".
(6)
في ف: "بنت".
(7)
في ف، أ: "بنت".
(8)
في ف: "يا رسول الله صلى الله عليك" ، وفي أ: "يا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(9)
في ف: "مرئته".
(10)
ورواه الحاكم في المستدرك (4/125) من طريق المعافي بن عمران عن أبي بكر بن أبي مريم به نحوه، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي: "قلت: وابن أبي مريم واه".
(11)
صحيح مسلم برقم (1015) وسنن الترمذي برقم (2989) والمسند (6/159).
(5/478)
وقوله: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي (1) : دينكم -يا معشر الأنبياء-دين واحد، وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ ولهذا قال: { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } ، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة "الأنبياء" ، وأن قوله: { أُمَّةً وَاحِدَةً } منصوب على الحال.
وقوله: { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا } أي: الأمم الذين بُعث إليهم الأنبياء، { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي: يفرحون بما هم فيه من الضلال؛ لأنهم يحسبون أنهم مهتدون؛ ولهذا قال متهددًا لهم ومتواعدًا: { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ } أي: في غيهم وضلالهم { حَتَّى حِينٍ } أي: إلى حين حينهم وهلاكهم، كما قال تعالى: { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [الطارق: 17] ، وقال تعالى: { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر: 3] .
وقوله: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } يعني: أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا؟! كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم: { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [سبأ:35] ، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاء؛ ولهذا قال: { بَل لا يَشْعُرُونَ } ، كما قال تعالى: { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 55] ، وقال تعالى: { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } [آل عمران: 178] ، وقال تعالى: { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [القلم: 44، 45] ، وقال: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا } [المدثر: 11-16] وقال تعالى: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ: 37] والآيات في هذا كثيرة.
قال (2) قتادة في قوله: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } قال: مُكِرَ والله بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد [بن عُبَيْد، حدثنا أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد، عن مرة الهمداني، حدثنا عبد الله] (3) بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قَسَم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يُعطي الدنيا من يُحِبّ ومن لا يحب، ولا يعطي الدِّين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم (4) عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه-قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: غشمه وظلمه-
__________
(1)
في ف، أ: "وإن".
(2)
في أ: "وقال".
(3)
زيادة من ف، أ، والمسند.
(4)
في ف: "يؤمن".
(5/479)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل (1) منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" (2) .
{
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) }
__________
(1)
في ف: "منه ليتقبل" وفي أ: "فيتقبل".
(2)
المسند (1/387).
(5/480)
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
===========
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)/الحديد
==============

الحديد - تفسير ابن كثير
وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
{
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) }
يخبر تعالى عما يثيب به المُصَّدقين والمُصَّدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة، { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } أي: دفعوه بنية خالصة ابتغاء وجه الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورًا؛ ولهذا قال: { يُضَاعَفُ لَهُمُ } أي: يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها، ويزداد على ذلك إلى سبعمائة ضعف وفوق ذلك { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي: ثواب جزيل حسن، ومرجع صالح ومآب { كَرِيمٌ }
وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذا تمام لجملة، وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون.
قال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذه مفصولة { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } .
وقال أبو الضحى: { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } ثم استأنف الكلام فقال: { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وهكذا قال مسروق، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم.
وقال الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله في قوله: { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } قال: هم ثلاثه أصناف: يعني المصدقين، والصديقين، والشهداء، كما قال [الله] (1) تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } [النساء: 69] ففرق بين الصديقين والشهداء، فدل على أنهما صنفان. ولا شك أن الصديق أعلى مقامًا من الشهيد، كما رواه الإمام مالك بن أنس، رحمه الله، في كتابه الموطأ، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم". قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث مالك، به (2)
وقال آخرون: بل المراد من قوله: { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } فأخبر عن المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون وشهداء. حكاه ابن جرير عن مجاهد، ثم قال ابن جرير:
__________
(1)
زيادة من أ.
(2)
صحيح البخاري برقم (3256) وصحيح مسلم برقم (2831)
(8/22)
حدثني صالح ابن حرب أبو مَعْمَر، حدثنا إسماعيل بن يحيى، حدثنا ابن عَجْلان عن زيد بن أسلم، عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مؤمنو أمتي شهداء". قال: ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [لَهُمْ أَجْرُهُمْ] } (1) هذا حديث غريب (2)
وقال أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } قال: يجيؤون يوم القيامة معًا كالإصبعين.
وقوله: { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي: في جنات النعيم، كما جاء في الصحيحين: "إن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تريدون؟ فقالوا: نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قُتِلنا أول مرة. فقال إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون" (3)
وقوله: { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي: لهم عند ربهم أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يحيى ابن إسحاق، حدثنا بن لَهِيعَة، عن عطاء بن دينار، عن أبي يزيد الخولاني قال: سمعت فضالة بن عُبَيد يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان، لقي العدو فصدق الله فقتل، فذلك (4) الذي ينظر الناس إليه هكذا-ورفع رأسه حتى سقطت قَلَنْسُوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قلنسوة عمر-والثاني مؤمن (5) لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح، جاءه سهم غَرْب فقتله، فذاك في الدرجة الثانية، والثالث رجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئًا لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذاك في الدرجة الثالثة، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافًا كثيرًا، لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذاك في الدرجة الرابعة". (6)
وهكذا رواه علي بن المديني، عن أبي داود الطيالسي، عن ابن المبارك، عن ابن لَهِيعَة، وقال: هذا إسناد مصري صالح. ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال: حسن غريب (7)
وقوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } لما ذكر السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم.
__________
(1)
زيادة من م.
(2)
تفسير الطبري (27/133).
(3)
صحيح مسلم برقم (1887) من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، ولم أقع عليه عند البخاري.
(4)
في م: "فذاك".
(5)
في أ: "رجل".
(6)
المسند (1/23).
(7)
سنن الترمذي برقم (1644).
(8/23)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
{
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) }
يقول تعالى مُوهنًا أمر الحياة الدنيا ومحقرا لها: { أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ } أي: إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا، كما قال: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران: 14]
ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة فقال: { كَمَثَلِ غَيْثٍ } وهو: المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس، كما قال: { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ] } [الشورى: 28] (1)
وقوله: { أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } أي: يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث؛ وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها، { ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا } أي: يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرًّا بعد ما كان خضرًا (2) نضرا، ثم يكون بعد ذلك كله حطامًا، أي: يصير يَبَسًا متحطمًا، هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزًا شوهاء، والإنسان كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريًّا لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وَيَنْفَد (3) بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخًا كبيرًا، ضعيف القوى، قليل الحركة، يعجزه الشيء اليسير، كما قال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [الروم: 54]. ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حَذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخير، فقال: { وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان.
وقوله: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } أي: هي متاع فانٍ غارٍّ (4) لمن ركن إليه فإنه يغتر
__________
(1)
زيادة من أ.
(2)
في أ: "ما أخضر".
(3)
في أ: "ويفقد".
(4)
في أ: "عار".
(8/24)
بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة.
قال ابن جرير: حدثنا علي ابن حرب الموصلي، حدثنا المحاربي، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها. اقرؤوا: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } (1)
وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة (2) والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير ووَكِيع، كلاهما عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَلْجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله، والنار مثل ذلك".
انفرد بإخراجه البخاري في "الرقاق"، من حديث الثوري، عن الأعمش، به (3)
ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان، وإذا كان الأمر كذلك؛ فلهذا حثه الله (4) على المبادرة إلى الخيرات، من فعل الطاعات، وترك المحرمات، التي تكفر عنه الذنوب والزلات، وتحصل له الثواب والدرجات، فقال تعالى: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } والمراد جنس السماء والأرض، كما قال في الآية الأخرى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 133] . وقال هاهنا: { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } أي: هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم، كما قدَّمنا في الصحيح: أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم. قال: "وما ذاك؟". قالوا: يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتقون ولا نُعْتِق. قال: "أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم: تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين". قال: فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا، ففعلوا مثله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" (5)
__________
(1)
تفسير الطبري (27/134) وليس في المطبوع هذه الزيادة، فلعل الحافظ رآها في نسخة أخرى.
(2)
صحيح البخاري برقم (6415) من حديث سهل بن سعد، رضي الله عنه.
(3)
المسند (1/387) وصحيح البخاري برقم (6488).
(4)
في م: "فلهذا حث تعالى".
(5)
صحيح البخاري برقم (843) وصحيح مسلم برقم (595).
(8/25)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
{
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) }
يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ } أي: في الآفاق وفي نفوسكم { إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } أي: من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة.
وقال بعضهم: { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } عائد على النفوس. وقيل: عائد على المصيبة. والأحسن عوده على الخليقة والبرية؛ لدلالة الكلام عليها، كما قال ابن جرير:
حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت جالسًا مع الحسن، فقال رجل: سله عن قوله: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } فسألته عنها، فقال: سبحان الله! ومن يشك في هذا؟ كل مصيبة بين السماء والأرض، ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة (1)
وقال قتادة: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ } قال: هي السنون. يعني: الجَدْب، { وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ } يقول: الأوجاع والأمراض. قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم، ولا خلجان عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
وهذه الآية الكريمة من أدل دليل على القَدَرية نُفاة العلم السابق-قبحهم الله-وقال الإمام أحمد:
حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة وابن لَهِيعة قالا حدثنا أبو هانئ الخولاني: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يقول: سمعت عبد الله بن عَمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قدَّر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة".
ورواه مسلم في صحيحه، من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن يزيد، وثلاثتهم عن أبي هانئ، به. وزاد بن وَهب: "وكان عرشه على الماء". ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح (2)
وقوله: { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي: أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله، عز وجل (3) ؛ لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
__________
(1)
تفسير الطبري (27/135).
(2)
المسند (2/169) وصحيح مسلم برقم (2653) وسنن الترمذي برقم (2156).
(3)
في أ: "تعالى".
(8/26)
وقوله: { لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } أي: أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا (1) للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تأسوا على ما فاتكم، فإنه (2) لو قدر شيء لكان { وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } أي: جاءكم، ويقرأ: "آتاكُم" أي: أعطاكم. وكلاهما متلازمان، أي: لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم، فلا تتخذوا نعم (3) الله أشرًا وبطرًا، تفخرون بها على الناس؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي: مختال في نفسه متكبر فخور، أي: على غيره.
وقال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفَرَح شكرًا والحزن صبرًا.
ثم قال: { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } أي: يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه، { وَمَنْ يَتَوَلَّ } أي: عن أمر الله وطاعته { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } كما قال موسى عليه السلام: { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [إبراهيم: 8].
__________
(1)
في أ: "كتابنا".
(2)
في م: "لأنه".
(3)
في أ: "نعمة".
(8/27)
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
===============
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)/المؤمنون
===========

آل عمران - تفسير ابن كثير
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
{
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (109) }
يقول تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ } أي: منتصبة للقيام بأمر الله، في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } قال الضحاك: هم خاصّة الصحابة وخاصة الرُّواة، يعني: المجاهدين والعلماء.
وقال أبو جعفر الباقر: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } ثم قال: "الْخَيْرُ اتِّبَاعِ القُرآنِ وَسُنَّتِي" رواه ابن مردويه.
والمقصود من هذه الآية أن تكون فرْقَة من الأمَّة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَده، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ". وفي رواية: "وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ" (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان الهاشمي، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عَمْرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي، عن حذيفة بن اليمان، أن النبي (2) صلى الله عليه وسلم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ".
ورواه الترمذي، وابن ماجة، من حديث عَمْرو بن أبي عمرو، به وقال الترمذي: حسن (3) والأحاديث في هذا الباب كثيرة مع الآيات الكريمة كما سيأتي تفسيرها في أماكنها.
ثم قال تعالى: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (4) } ينهى هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضية في تفرقهم واختلافهم، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صَفْوان، حدثني أزْهَر بن عبد الله الْهَوْزَنِي (5) عن
__________
(1)
صحيح مسلم برقم (49) من حديث أبي موسى الأشعري، قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "وهم الحافظ ابن كثير وهما شديدا، فحديث: "من رأى منكم منكرا" هو حديث أبي موسى".
(2)
في أ: "أن رسول الله".
(3)
المسند (5/388) وسنن الترمذي برقم (2169).
(4)
زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(5)
في جـ، ر: "الهوري"، وفي هـ ومسند الإمام أحمد (4/102): "الهوزي". قال أبو المغيرة في موضع آخر: الحرازي" والله أعلم بالصواب.
(2/91)
أبي عامر عبد الله بن لُحَيٍّ (1) قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى [صلاة] (2) الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أهْلَ الْكَتَابَيْنِ افْتَرَقُوا في دِينِهِمْ عَلَى ثنتيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وإنَّ هذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً -يعني الأهواء-كُلُّهَا فِي النَّار إلا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارى بِهِمْ تِلْكَ الأهْواء، كَمَا يَتَجَارى الكَلبُ بصَاحِبِهِ، لا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إلا دَخَلَهُ. واللهِ -يَا مَعْشَر العَربِ-لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جاء بِهِ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم لَغَيْرُكم (3) مِن النَّاسِ أحْرَى ألا يَقُومَ بِهِ".
وهكذا رواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى، كلاهما عن أبي المغيرة -واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي-به، وقد رُوي هذا الحديث من طرق (4) .
وقوله تعالى: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } يعني: يوم القيامة، حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسودّ وجوه أهل البِدْعَة والفرقة، قاله ابن عباس، رضي الله عنهما (5) .
{
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } قال الحسن البصري: وهم المنافقون: { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } وهذا الوصف يَعُمّ كل كافر.
{
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يعني: الجنة، ماكثون فيها أبدا لا يبغون عنها حوَلا. وقد قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن رَبِيع -وهو ابن صَبِيح (6) -وحَمَّاد بن سلمة، عن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على دَرَج دمشق، فقال أبو أمامة: كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خَيْرُ قتلى من قتلوه، ثم قرأ: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } إلى آخر الآية. قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا -حتى عَدّ سبعا-ما حَدّثتكموه.
ثم قال: هذا حديث حسن: وقد رواه ابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب، وأخرجه أحمد في مسنده، عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أبي غالب، بنحوه (7) . وقد روى ابن مَرْدُويَه عند تفسير هذه الآية، عن أبي ذر، حديثًا مطولا غريبا عجيبا جدا.
ثم قال [تعالى] (8) { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ } أي: هذه آيات الله وحُجَجُه وبيناته { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } يا محمد { بِالْحَقِّ } أي: نكشف (9) ما الأمر عليه في الدنيا والآخرة.
{
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ } أي: ليس بظالم لهم بل هو الحَكَم العدل الذي لا يجور؛ لأنه القادر
__________
(1)
في ر: "لجي".
(2)
زيادة من أ، و.
(3)
في جـ: "فغيركم".
(4)
المسند (4/102) وسنن أبي داود برقم (4597).
(5)
في ر: "عنه".
(6)
في ر: "صبح".
(7)
سنن الترمذي برقم (3000) وسنن ابن ماجة برقم (176).
(8)
زيادة من أ، و.
(9)
في جـ: "ينكشف".
(2/92)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
على كل شيء، العالم بكل شيء، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحدا من خلقه؛ ولهذا قال: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي: الجميع ملْك له وعبيد له. { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي: هو المتصرف في الدنيا والآخرة، الحاكم في الدنيا والآخرة.
{
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) }
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } .
قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، عن سفيان، عن مَيْسَرة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال: خَيْرَ الناس للناس، تأتون (1) بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام (2) .
وهكذا قال ابن عباس، ومُجاهد، وعِكْرِمة، وعَطاء، والربيع بن أنس، وعطية العَوْفيّ: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } يعني: خَيْرَ الناس للناس.
والمعنى: أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس؛ ولهذا قال: { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ (3) بِاللَّهِ }
قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا شريك، عن سِماك، عن عبد الله بن عُمَيرة عن زوج [ذُرّةَ] (4) بنت أبي لَهَب، [عن درة بنت أبي لهب] (5) قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أيّ الناس خير؟ فقال: "خَيْرُ النَّاسِ أقْرَؤهُمْ وأتقاهم للهِ، وآمَرُهُمْ بِالمعروفِ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ" (6) .
ورواه أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث سماك، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس في قوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة (7) .
__________
(1)
في جـ، ر، أ، و: "يأتون".
(2)
صحيح البخاري برقم (4557).
(3)
في ر: "يؤمنون".
(4)
زيادة من جـ، ر، أ، والمسند.
(5)
زيادة من جـ، ر، أ، والمسند.
(6)
المسند (6/432).
(7)
المسند (1/319) والنسائي في السنن الكبرى (11072) والمستدرك (2/294) وقال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.
(2/93)
والصحيح أن هذه الآية عامةٌ في جميع الأمة، كل قَرْن بحسبه، وخير قرونهم الذين بُعثَ فيهم (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي: خيارا { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] (2) } الآية.
وفي مسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، من رواية حكيم بن مُعَاوية بن حَيْدَة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أنْتُمْ خَيْرُهَا، وأنْتُمْ أكْرَمُ عَلَى اللهِ عزَّ وجَلَّ" (3) .
وهو حديث مشهور، وقد حَسَّنه الترمذي. ويروى من حديث معاذ بن جبل، وأبي سعيد [الخدري] (4) نحوه.
وإنما حازت هذه الأمة قَصَبَ السَّبْق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم (5) فإنه أشرفُ خلق الله أكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يُعْطه نبيًّا قبله ولا رسولا من الرسل. فالعمل [على] (6) منهاجه وسبيله، يقوم القليلُ منه ما لا يقوم العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامه، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرحمن، حدثنا ابن زُهَير، عن عبد الله -يعني ابن محمد بن عقيل-عن محمد بن علي، وهو ابن الحنفية، أنه سمع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ". فقلنا: يا رسول الله، ما هو؟ قال : " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ". تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناده حسن (7) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو العلاء الحسن بن سَوَّار، حدثنا لَيْث، عن معاوية عن بن أبي حُلَيْس يزيد بن مَيْسَرَةَ قال: سمعت أم الدرداء، رضي الله عنها، تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها، يقول (8) إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا عِيسَى، إنِّي بَاعِثٌ بَعْدَكَ أُمَّةً، إنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا وشَكَرُوا، وإنْ أصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ". قال: يَا رَبِّ، كَيْفَ هَذَا لهُمْ، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ؟. قال: "أُعْطِيهِمْ مِن حِلْمِي وعلمي" (9) .
__________
(1)
في أ: "الذي بعث فيه".
(2)
زيادة من جـ، ر، أ، و.
(3)
المسند (4/447) وسنن الترمذي برقم (3001) وسنن ابن ماجة برقم (4287) والمستدرك (4/84).
(4)
زيادة من جـ.
(5)
في و: "صلوات الله وسلامه عليه".
(6)
زيادة من جـ، ر.
(7)
المسند (1/98) وقال الهيثمي في المجمع (1/260): "فيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيئ الحفظ. وقال الترمذي: صدوق وقد تكلم فيه بعض العلماء من قبل حفظه، وسمعت محمد البخاري يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل. قلت: فالحديث حسن".
(8)
في ر: "تقول".
(9)
المسند (6/450).
(2/94)
وقد وردت أحاديثُ يناسب (1) ذكرُها هاهنا:
قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا المسعودي، حدثنا بُكَيْر (2) بن الأخْنَس، عن رجل، عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْر، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي ، عز وجَلَّ، فَزَادَنِي مَعَ كُل وَاحِدٍ سبعين ألفًا". فقال أبو بكر، رضي الله عنه: فرأيت أن ذلك آتٍ على أهل القرى، ومصيبٌ من حافات البوادي (3) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا هشام بن حسان، عن القاسم بنِ مهران، عن موسى بن عبيد، عن ميمون بن مهران، عن عبد الرحمن بن أبي بكر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ رَبِّي أعْطَانِي سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، بِغَيْرِ حِسَابٍ". فقال عمر: يا رسول الله، فهلا استزدته؟ فقال: "اسْتَزَدْتُهُ فَأَعْطَانِي مَعَ كُلِّ رَجُلٍ سَبْعِينَ أَلْفًا ". قال عمر: فهلا استزدته؟ قال: "قَدِ اسْتَزَدْتُهُ فأعْطَانِي هكَذَا". وفرج عبد الله بن بكر (4) بين يديه، وقال عبد الله: وبسط باعيه، وحثا (5) عبد الله، قال هشام: وهذا من الله لا يدرى ما عدده (6) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليَمان، حدثنا إسماعيل بن عَيّاش، عن ضَمْضم بن زُرْعة قال: قال شُرَيح بن عبيد: مَرِضَ ثَوْبَان بحِمْص، وعليها عبد الله بن قُرْط الأزْدِي، فلم يَعُدْه، فدخل على ثوبان رجل من الكَلاعيين عائدًا، فقال له ثوبان: [أتكتب؟ قال: نعم: فقال: اكتب، فكتب للأمير عبد الله بن قرط، "من ثوبان] (7) مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد: فإنه لو كان لموسى وعيسى، عليهما السلام، بحضرتك خَادم لعدته" ثم طوى الكتاب وقال له: أتبلغه إياه؟ فقال: نعم. فانطلقَ الرجلُ بكتابه فدفعه إلى ابن قرط، فلما رآه قام فَزِعا، فقال الناس: ما شأنه؟ أحدث أمر؟ فأتى ثوبان حتى دخل عليه فعاده، وجلس عنده ساعة ثم قام، فأخذ ثوبان بردائه وقال: اجلس حتى أحدثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ، مَعَ كُلِّ ألفٍ سَبْعُونَ ألْفًا".
تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حِمْصِيّون (8) فهو حديث صحيح (9) ولله الحمد.
طريق أخرى: قال الطبراني: حدثنا عمرو بن إسحاق بن زبْريق الحِمْصي، حدثنا محمد بن
__________
(1)
في ر: "تناسب".
(2)
في جـ: "بكر".
(3)
المسند (1/6) وقال الهيثمي في المجمع (10/410): "فيه المسعودي وقد اختلط وتابعيه لم يسم، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".
(4)
في جـ، ر، أ،: "عبد الله بن أبي بكر.
(5)
في جـ، ر: "حي".
(6)
المسند (1/197) وفي إسناده القاسم بن مهران وموسى بن عبيد وهما مجهولان، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(7)
زيادة من جـ، ر، والمسند.
(8)
في ر: "ضمضميون".
(9)
المسند (5/280).
(2/95)
إسماعيل -يعني ابن عَيَّاش-حدثنا أبي، عن ضَمْضَم بن زُرْعة، عن شُرَيح بن عبيد، عن أبي أسماء الرَحَبيّ، عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ رَبِّي، عَزَّ وجَلَّ، وَعَدَنِي مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا لا يُحَاسَبُونَ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألْفًا". هذا لعله هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرحبي، بين شريح وبين ثوبان (1) والله أعلم.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمر، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حُصَين، عن ابن مسعود قال: أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ثم غَدَوْنا إليه فقال: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأُمَمِهَا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الثَّلاثَةُ ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ النَّفَرُ ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ مُوسَى، عليه السلام، ومَعَهُ كَبْكَبَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَأَعْجَبُونِي، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ ؟ فَقِيلَ لِي: هَذَا أَخُوكَ مُوسَى، مَعَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ". قال: "قُلْتُ: فَأَيْنَ أُمَّتِي؟ فَقِيلَ : انْظُرْ عَنْ يَمِينِكَ. فَنَظَرْتُ فَإِذَا الظِّرَابُ (2) قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ فَقِيلَ لي: قَدْ رَضِيتَ؟ فَقُلْتُ (3) "رَضِيتُ يَا رَبِّ، [رَضِيتُ يَا رَبِّ ] (4) " قَالَ: "فَقِيلَ لِي: إِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ". فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "فِدَاكُمْ أَبِي وَأُمِّي إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ السَّبْعِينَ أَلْفًا فَافْعَلُوا فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الظِّرَابِ (5) فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الأفُقِ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ ثَمَّ أُناسًا يَتَهَاوَشُونَ". فَقَامَ عُكاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم.أي من السبعين، فدعا له. فقام رجل آخر فَقَالَ: ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم فَقَالَ: "قَدْ سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَة". قَالَ: ثُمَّ تَحَدَّثْنَا فَقُلْنَا: لمَنْ (6) تُرَوْنَ هؤلاء السبعين الألف؟ قوم وُلِدُوا في الإسلام لم يُشْرِكُوا بالله شيئا حتى ماتوا. فبلغ ذلك النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (7) .
هكذا رواه أحمد بهذا السَّنَد وهذا السياق، ورواه أيضا عن عبد الصمد، عن هشام، عن قتادة، بإسناده مثله، وزاد بعد قوله: "رَضِيتُ يَا رَبِّ رضيت يا رب" قال (8) رَضِيتَ؟ قُلْتُ: "نَعَمْ". قَالَ: انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ قال: "فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ ". فقال: رَضِيتَ؟ قُلْتُ: "رَضِيتُ". وهذا إسناد صحيح من هذا الوجه، تفرد به أحمد ولم يخرجوه (9) .
حديث آخر: قال أحمد بن مَنِيع: حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز، حدثنا حَمّاد، عن عاصم، عن
__________
(1)
المعجم الكبير (2/92) ورواه أيضا في مسند الشاميين رقم (1682).
(2)
في جـ، ر: "الضراب" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه من المسند (1/401).
(3)
في جـ، ر: "قلت".
(4)
زيادة من ر، أ، والمسند.
(5)
في ر: "الضراب" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه من المسند (1/401).
(6)
في جـ، ر، أ، و: "من".
(7)
المسند (1/401).
(8)
في جـ: "فقال".
(9)
المسند (1/420).
(2/96)
زر، عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ بِالْمَوْسِمِ فَرَاثَتْ (1) عَلَيَّ أُمَّتِي، ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ فَأَعْجَبَتْنِي كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئاتُهُمْ ، قَدْ مَلَؤوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ" ، فَقَالَ: أَرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقُلْتُ: "نَعَمْ". قَالَ: فَإِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ". فَقَامَ عُكاشَةُ فَقَالَ: يَا رسول اللَّه، ادعُ اللَّه أن يجعلني منهم فقال:"أنْتَ مِنْهُمْ" فقام رجل آخر فقال: [ادع الله أن يجعلني منهم فقال] (2) سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَةُ". رواه الحافظ الضِّياء المقْدِسيّ، قال: هذا عندي على شرط مسلم (3) .
حديث آخر: قال الطبراني: حدثنا محمد بن محمد الجُذُوعيّ القاضي، حدثنا عُقْبة بن مكْرم. حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ عن هشام بنِ حسان عن محمد بن سِيرين، عن عِمْران بن حُصَين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَدْخُل (4) الجَنَّة مِنْ أمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَاب وَلا عَذَابٍ". قيل: من هم؟ قال: "هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". رواه مسلم من طريق هشام بن حسان، وعنده ذكر عكاشة (5) .
حديث آخر: ثبَتَ في الصحيحين من رواية الزُّهْرِي، عن سعيد بن الْمُسَيَّب، أن أبا هريرة حدثه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ وَهُمْ سَبْعُونَ ألفًا، تُضِيء وُجُوهُهُمْ إضَاءة الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ". فقال (6) أبو هريرة: فقام عُكَاشة بن مِحْصَن الأسدي يرفع ،نَمِرَةً عليه فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ". ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم فقال: "سَبَقَكَ بِهَا عكاشَةُ" (7) .
حديث آخر: قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو (8) غَسَّان، عن أبي حازم، عن سَهْلِ بن سَعْد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَيدخُلَنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا -أوْ سَبْعُمِائة ألفٍ-آخِذٌ بَعْضُهُمْ ببعض، حَتَّى يدخل أوَّلُهُمْ وآخِرُهُمُ الْجَنَّةَ، وَوجُوهُهُم (9) عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْرِ".
أخرجه البخاري ومسلم جميعًا، عن قُتَيْبةَ عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سَهْل به (10) .
__________
(1)
في جـ، ر، أ: "فرأيت".
(2)
زيادة من جـ.
(3)
ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2646) "موارد" وأبو يعلى في مسنده (9/233) والبزار في مسنده (4/204) كلهم من طريق حماد عن عاصم به.
(4)
في جـ: "يدخلون".
(5)
المعجم الكبير (18/183) وصحيح مسلم برقم (216).
(6)
في جـ، ر، أ، و: "قال".
(7)
صحيح البخاري برقم (6542) وصحيح مسلم برقم (216).
(8)
في جـ: "ابن".
(9)
في أ، و: "وجوههم".
(10)
المعجم الكبير (6/142) وصحيح البخاري برقم (6554) وصحيح مسلم برقم (219).
(2/97)
حديث آخر: قال مسلم بن الحجّاج في صحيحه: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حُصَيْن بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جُبَير فقال: أيُّكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحةَ؟ قلتُ: أنا. ثم قُلتُ: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدغْتُ: قال: فما صنعتَ؟ قلتُ: استرقَيْتُ. قال: فما حملك على ذلك؟ قلتُ: حديث حدَّثَنَاه الشعبي. قال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حَدَّثَنَا عن بُرَيْدَة بن الحُصَيب الأسلمي أنه قال: لا رُقْيَةَ إلا مِنْ عَيْنٍ أو حُمّة. فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابنُ عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عُرضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ، فَرَأيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ (1) والنَّبِيَّ ومَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ والنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ، إذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وقوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إلَى الأفقِ. فَنَظَرتُ، فَإذا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إلَى الأفُقِ الآخَرِ، فَإذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ ومعَهُم سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجنة بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلا عَذَابٍ". ثم نهَضَ فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلِدُوا في الإسلام فلم يُشْرِكوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟" فأخبروه، فقال: "هُمُ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ وَلا يَسْتَرقُونَ وَلا يَتَطيرونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". فقام عكاشة بن مِحصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم قال: "أنْتَ مِنْهُمْ". ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: "سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ".
وأخرجه البخاري عن أُسَيد بن زيد، عن هُشَيم وليس عنده، "لا يرقون" (2) .
حديث آخر: قال أحمد: حدثنا رَوْح بن عبادة. حدثنا ابن جُرَيج، أخبرني أبو الزُّبَيْر، أنه سمع جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثًا، وفيه: "فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا، لا يُحَاسَبُونَ ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، كأَضْوَإِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ كَذَلِكَ". وذكر بقيته، رواه مسلم من حديث رَوْح، غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
حديث آخر: قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش، عن محمد بن زياد، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وَعَدنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألفًا، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألْفًا، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ. وَثَلاثُ حَثياتٍ مِنْ حَثَيات ربِّي عزَّ وجَلَّ".
وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، به، وهذا إسناد جيد (4) .
طريق أخرى عن أبي أمامة: قال ابن أبي عاصم: حدثنا دُحَيم، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا
__________
(1)
في جـ، ر: "الرهط".
(2)
صحيح مسلم برقم (220) وصحيح البخاري برقم (5752، 3410، 5705، 6541، 6472).
(3)
المسند (3/283).
(4)
السنة لابن أبي عاصم برقم (589) والمعجم الكبير (8/129).
(2/98)
صفوان بن عَمرو، عن سليم بن عامر، عن أبي اليمان الهوزَني (1) -واسمه عامر بن عبد الله بن لُحيّ، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ". قال يزيد بن الأخنس: والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا مثل الذباب (2) الأصهب في الذباب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَإنَّ اللهَ وَعَدَنِي سَبْعِينَ ألْفًا ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألفًا، وَزَادَنِي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ". وهذا أيضًا إسناد حسن (3) .
حديث آخر: قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن خُلَيْد، حدثنا أبو تَوْبة، حدثنا معاوية (4) بن سلام، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عامر بن زيد البُكَالي أنه سمع عُتْبة بن عبْد السلمي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ، ثُمَّ يَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ لِسَبْعِينَ ألْفًا، ثم يَحْثي رَبِّي، عز وجل، بِكفيْهِ ثَلاثَ حَثَيَات". فكبر (5) عمر وقال: إن السبعين الأوَلَ يُشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر.
قال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة: لا أعلم لهذا الإسناد علة. والله أعلم (6) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام -يعني الدَّستَوائي-حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، حدثنا عطاء بن يَسَار أن رِفَاعة الجُهَنيّ حدّثه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكُدَيد -أو قال بقُدَيْد-فذكر حديثا، وفيه: ثم قال: وَعَدَنِي رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنِّي لأرْجُو ألا يَدْخُلُوهَا حَتَّى تَبوؤُوا أْنتُمْ ومَنْ صَلَحَ مِنْ أزْوَاجِكُمْ وذرياتكم مَسَاكِنَ فِي الْجَنَّةِ".
قال الضياء [المقدسي] (7) وهذا عندي على شرط مسلم (8) .
حديث آخر: قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، عن النَّضْر بن أنس، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الجنة مِنْ أُمَّتِي أرْبَعمِائَةِ ألْفٍ". قال أبو بكر: زدنا يا رسول الله. قال: والله هكذا (9) فقال عمر: حسبك يا أبا بكر. فقال أبو بكر: دعني، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا (10) فقال عمر: إن شاء الله أَدْخَل خَلْقه الجنة بكفٍّ واحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ عُمَرُ".
__________
(1)
في جـ، ر: "الهودي".
(2)
في ر: "الدنان".
(3)
السنة لابن أبي عاصم برقم (588).
(4)
في و: "أبو معاوية".
(5)
في ر: "وكبر".
(6)
المعجم الكبير (17/126، 127) ورواه الطبراني أيضا في المعجم الأوسط (1/254) بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في المجمع (10/413): "وفيه عامر بن زيد البكالي، وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه ولم يوثقه، وبقية رجاله ثقات".
(7)
زيادة من و.
(8)
المسند (4/16).
(9)
في و: "قال: وهكذا. وجمع بين يديه، قال: زدنا يا رسول الله، قال: وهكذا".
(10)
في أ: "كلنا بكف واحد".
(2/99)
هذا الحديث بهذا الإسناد انفرد (1) به عبد الرزاق (2) قاله الضياء. وقد رواه الحافظ أبو نُعيم الأصبهاني:
حدثنا محمد بن أحمد بن مَخْلَد، حدثنا إبراهيم بن الْهيْثَم البَلدِي، حدثنا سليمان بن حَرْب، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَعَدَنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي مِائَةَ ألْف". فقال أبو بكر: يا رسول الله، زدنا قال: "وهكذا" -وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك-قلت (3) يا رسول الله، زدنا. فقال عمر: إن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بِحَفْنَةٍ واحدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ عُمَرُ". هذا حديث غريب من هذا الوجه وأبو هلال اسمه: محمد بن سُلَيْم الراسبي، بصري (4) .
طريق أخرى عن أنس: قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا عبد القاهر بن السُّرِّي السلمي، حدثنا حُمَيد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا". قالوا: زدنا يا رسول الله. قال: "لِكُلِّ رَجُلٍ سَبْعُونَ ألْفًا" قالوا: زدنا -وكان (5) على كثيب -فقال: هكذا، وحثا بيده. قالوا: يا رسول الله، أبْعدَ الله من دخل النار بعد هذا، وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات، ما عدا عبد القاهر بن السري، وقد سئل عنه ابن معين، فقال: صالح (6) .
حديث آخر: روى الطبراني من حديث قتادة، عن أبي بكر بن أنس، عن أبي بكر بن عُمَير عن أبيه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي ثَلاثَمائة ألْفٍ الْجَنَّةَ". فقال عمير: يا رسول الله، زدنا. فقال هكذا بيده. فقال عمير يا رسول الله، زدنا. فقال عمر: حَسْبك، إنّ الله إنْ شاء أدخل الناس الجنة بِحفْنَةٍ -أو بِحَثْيَةٍ-واحدة. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ عُمَرُ" (7) .
حديث آخر: قال الطبراني: حدثنا أحمد بن خُلَيْد، حدثنا أبو تَوْبة، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عبد الله بن عامر، أن قيسا الكندي حَدّث أن أبا سعيد (8) الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ، ويَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ لِسَبْعِين (9) ألْفًا، ثم يَحْثِي رَبِّي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ بِكَفَّيْهِ". كذا قال قيس، فقلت لأبي سعيد: أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، بأذني، ووعاه قلبي. قال أبو سعيد: فقال -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "وَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللهُ، عز وجل، يَسْتَوْعِبُ مُهَاجِرِي أمتي، ويُوَفِّي الله بقيته مِنْ أعْرَابِنَا".
وقد روى هذا الحديث محمد بن سهل بن عسكر، عن أبي تَوْبَة الربيع بن نافع بإسناده، مثله.
__________
(1)
في جـ، ر: "تفرد".
(2)
المصنف لعبد الرزاق برقم (20556) ورواه من طريقه أحمد في المسند (3/165) وابن أبي عاصم في السنة برقم (590).
(3)
في أ: "فقال" وفي و: "قال".
(4)
الحلية لأبي نعيم (2/344) ورواه أحمد في مسنده (3/193) من طريق أبي هلال عن قتادة به.
(5)
في ر: "وكانوا".
(6)
مسند أبي يعلى (6/417).
(7)
المعجم الأوسط (1/257) وقال الهيثمي في المجمع (10/409): "رجاله ثقات".
(8)
في جـ: "سعد".
(9)
في أ، و: "لكل ألف سبعين".
(2/100)
وزاد: قال أبو سعيد: فحسب ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين (1) ألف ألْف.
حديث آخر: قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن مَرْثَد الطبراني، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عَيّاش، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زُرْعة، عن شُرَيح بن عبيد، عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمَا وَالَّذي نَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِهِ لَيُبْعَثَنَّ مِنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ مِثْلَ اللَّيْلِ الأسْوَدِ، زُمْرةٌ جَمِيعُهَا يَخْبطُونَ الأرضَ، تَقُولُ الملائِكةُ: لِمَ جَاءَ مَعَ مُحَمَّدٍ أكْثَرُ مِمَّا جَاءَ مَعَ الأنْبِيَاءِ؟". وهذا إسناد حسن (2) .
نوع آخر من الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها بكرامتها (3) على الله، وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا ابن جُرَيج، أخبرني أبو الزبير، عن جابر (4) أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنِّي لأرْجُو أنْ يَكُونَ مَنْ يَتَّبِعُنِي مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُبْعَ الْجَنَّةِ". قال: فكبَّرنا. ثم قال: "أَرْجُو أنْ يَكُونُوا (5) ثلثَ النَّاسِ". قال: فكبرنا. ثم قال: "أَرْجُو أنْ تَكُونُوا الشَّطْرَ". وهكذا رواه عن رَوْح، عن ابن جُرَيج، به. وهو على شرط مسلم (6) .
وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، عن عَمْرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنِّةِ؟" فكبرنا. ثم قال: "أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلَ الْجَنَّةِ؟" فكبرنا. ثم قال: "إنِّي لأرْجُو أنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة" (7) .
طريق أخرى عن ابن مسعود: قال الطبراني: حدثنا أحمد بن القاسم بن مُساور، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني الحارث بن حَصِيرة، حدثني القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْتُمْ وَرُبْعُ الْجَنَّةِ لَكُمْ ولِسَائر الناس ثلاثة أرْبَاعِهَا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "كَيْفَ أَنْتُمْ وثُلُثُهَا؟" قالوا: ذاك أكثر. قال: "كَيْفَ أَنْتَمْ والشَّطْرُ لَكُمْ؟" قالوا: ذاك أكثر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهْلُ الْجَنّةِ عِشْرُونَ وَمَائةُ صَفٍّ، لَكُمْ مِنْهَا (8) ثَمَانُونَ صَفًا".
قال الطبراني: تفرد به الحارث بن حَصيرة (9) .
__________
(1)
في أ: "سبعمائة"، وفي و: "تسعمائة".
(2)
المعجم الكبير (3/297) وقال الهيثمي في المجمع (10/404): "وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف".
(3)
في أ، و: "وكرامتها".
(4)
في و: "أنه سمع جابرا".
(5)
في جـ: "تكونوا".
(6)
قال الهيثمي في المجمع (10/402): "رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار رجال الصحيح وكذا أحد أسانيد أحمد".
(7)
صحيح البخاري برقم (6528، 6642) وصحيح مسلم برقم (221).
(8)
في أ: "فيها".
(9)
المعجم الكبير (10/208) ورواه أحمد في مسنده (1/453) من طريق عفان عن عبد الواحد بن زياد به. قال الهيثمي في المجمع (10/403): "رجالهم رجال الصحيح غير الحارث بن حصيرة وقد وثق".
(2/101)
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا ضرار بن مُرَّة أبو سَنان الشيباني، عن محارب بن دِثَار، عن ابن بُرَيْدة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، هَذِه الأمَّةُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُون صَفا".
وكذلك (1) رواه عن عفان، عن عبد العزيز، به. وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان، به وقال: هذا حديث حسن. ورواه ابن ماجة من حديث سفيان الثوري، عن عَلْقَمة بن مَرْثَد، عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه، به (2) .
حديث آخر: رَوَى الطبراني من حديث سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا خالد بن يزيد البَجَلي، حدثنا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّتِي".
تفرد به خالد بن يزيد البَجَلي، وقد تكلم فيه ابن عَدِيّ (3) .
حديث آخر: قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا موسى بن غيلان، حدثنا هاشم (4) بن مَخْلَد، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن أبي عمرو، عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة: 38 ، 39 ] } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمْ رُبْعُ أهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ ثُلُثَا أَهْلِ الْجَنَّةِ" (5) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولا الْجَنَّةَ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا لِلْيَهُوَدِ [و] (6) للنصارى بَعْدَ غَدٍ".
رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا بنحوه (7) ورواه مسلم أيضا عن طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ". وذكر تمام الحديث (8) .
حديث آخر: روى الدارقطني في الأفراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الزهري،
__________
(1)
في أ: "وكذا".
(2)
المسند (5/355، 347) وسنن الترمذي برقم (2546) وسنن ابن ماجة برقم (4289).
(3)
المعجم الكبير (10/348) ورواه ابن عدي في الكامل (3/13) وقال: "أحاديثه كلها لا يتابع عليها لا إسنادا ولا متنا، ولم أر للمتقدمين فيه قولا، بل غفلوا عنه وهو عندي ضعيف".
(4)
في جـ: "هشام".
(5)
ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق الطبراني به (7/101) ونقل عن الطبراني قوله: "تفرد برفعه ابن المبارك عن الثوري. وأبو عمرو اسمه محمد والد أسباط بن محمد الكوفي القرشي".
(6)
زيادة من جـ، ر.
(7)
صحيح البخاري برقم (896، 3486، 3487) ومسلم برقم (855).
(8)
صحيح مسلم برقم (855).
(2/102)
عن سعيد بن المسيَّب، عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الأنْبِيَاءِ كُلُّهُمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَى الأمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا (1) أمتِي".
ثم قال: تفرد به ابن عقيل، عن الزهري، ولم يرو عنه سواه. وتفرد به زُهير بن محمد، عن ابن عقيل، وتفرد به عَمْرو بن أبي سلمة، عن زهير.
وقد رواه أبو أحمد بن عَدِيّ الحافظ فقال: حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق، حدثنا أبو بكر الأعين محمد بن أبي عَتَّاب، حدثنا أبو حفص التِّنيسي -يعني عمرو بن أبي سلمة-حدثنا صدقة الدمشقي. عن زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الزهري.
ورواه الثَّعْلَبي: حدثنا أبو عباس المَخْلَدي، أخبرنا أبو نُعْم عبد الملك بن محمد، أخبرنا أحمد بن عيسى التنيسي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن عبد الله، عن زهير بن محمد، عن ابن عقيل، به (2) .
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم، كما قال قتادة: بَلَغَنَا أن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (3) في حجة حجّها رأى من الناس سُرْعة (4) فقرأ هذه الآية: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ثم قال: من سَرَّه أن يكون من تلك الأمة فَلْيؤدّ شَرْط الله فيها. رواه ابن جرير.
ومن (5) لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] (6) [المائدة:79] } ولهذا لما مَدح [الله] (7) تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال: { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ } أي: بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } أي: قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان.
ثم قال تعالى مخبرًا عباده المؤمنين ومُبشِّرًا لهم أن النصر والظَّفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين، فقال: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } وهكذا وقع، فإنهم يوم خَيْبَر أذلّهم الله وأرْغَم آنافهم (8) وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قَيْنُقَاع وبني النَّضِير وبني قُرَيْظَة (9) كلهم أذلهم الله، وكذلك النصارى بالشام كَسَرهم الصحابة في غير ما موطن، وسَلَبوهم مُلْك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تزال عِصَابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل
__________
(1)
في جـ: "يدخلها".
(2)
أطراف الغرائب والأفراد (ق21) لابن القيسراني، والكامل لابن عدي (4/129) ورواه البغوي في تفسيره (2/91) من طريق الثعلبي. ونقل ابن أبي حاتم في العلل (2/227) عن أبي زرعة: "هذا الحديث منكر لا أدري كيف هو".
(3)
زيادة من جـ، أ.
(4)
في جـ، ر: "ترعل".
(5)
في أ: "من".
(6)
زيادة من جـ، أ، و، وفي هـ: "الآية"
(7)
زيادة من جـ، ر، أ.
(8)
في و: "أنوفهم".
(9)
في ر: "بنو النضير وبنو قريظة".
(2/103)
عيسى ابن مريم [عليه السلام] (1) وهم كذلك، ويحكم، عليه السلام (2) بشرع محمد (3) عليه أفضل الصلاة والسلام (4) فيَكْسر الصَّلِيب، ويقتل الخنزير، ويَضَع الجزْية، ولا يقبل إلا الإسلام.
ثم قال تعالى: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي: ألزمهم الله الذلة (5) والصَّغَار أينما كانوا فلا يأمنون { إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ } أي: بذمة من الله، وهو عَقْد الذمة لهم وضَرْب الجزية عليهم، وإلزامهم أحكام الملة { وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي: أمان منهم ولهم، كما في المُهَادَن والمعاهَد والأسير إذا أمَّنَه واحد (6) من المسلمين ولو امرأة، وكذَا عَبْد، على أحد قولي العلماء.
قال ابن عباس: { إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي: بعهد من الله وعهد من الناس، [و] (7) هكذا قال مُجاهد، وعِكْرِمة، وعَطَاء، والضَّحَّاك، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، والرَّبِيع بن أنس.
وقوله: { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي: أُلزموا فالتزَمُوا بغضب من الله، وهم يستحقونه { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ } أي: أُلزِموها (8) قَدرًا وشَرْعًا. ولهذا قال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ (9) حَقٍّ } أي: وإنما حملهم على ذلك الكبْر والبَغْي وَالْحسَد، فأعْقَبَهم ذلك الذِّلة والصَّغَار والمسكنة أبدا، متصلا بذلة الآخرة، ثم قال تعالى: { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } أي: إنما حَمَلهم على الكفر بآيات الله وقَتْل رُسُل الله وقُيِّضوا لذلك أنّهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله، عز وجل، والغشيان لمعاصي الله، والاعتداء في شرع الله، فَعِياذًا بالله من ذلك، والله المستعان.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حَبِيب حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا شعبة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي مَعْمَر الأزدي، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبيّ، ثم يقوم سُوق بَقْلهم في آخر النهار.
__________
(1)
زيادة من أ.
(2)
في و: "ويحكم بملة الإسلام".
(3)
في جـ: "عيسى ابن مريم عليه السلام ويحكم بشرع محمد"، وفي ر: "عيسى ابن مريم وهو كذلك ويحكم عليه السلام بشرع محمد".
(4)
في جـ، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(5)
في و: "المذلة".
(6)
في جـ، ر، أ، و: "أحد".
(7)
زيادة من و.
(8)
في و: "ألزموا بها".
(9)
في و: "بذل".
(2/104)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
{
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) }
(2/105)
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
==========
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
==========

آل عمران - تفسير ابن كثير
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
{
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (109) }
يقول تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ } أي: منتصبة للقيام بأمر الله، في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } قال الضحاك: هم خاصّة الصحابة وخاصة الرُّواة، يعني: المجاهدين والعلماء.
وقال أبو جعفر الباقر: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } ثم قال: "الْخَيْرُ اتِّبَاعِ القُرآنِ وَسُنَّتِي" رواه ابن مردويه.
والمقصود من هذه الآية أن تكون فرْقَة من الأمَّة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَده، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ". وفي رواية: "وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ" (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان الهاشمي، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عَمْرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي، عن حذيفة بن اليمان، أن النبي (2) صلى الله عليه وسلم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ".
ورواه الترمذي، وابن ماجة، من حديث عَمْرو بن أبي عمرو، به وقال الترمذي: حسن (3) والأحاديث في هذا الباب كثيرة مع الآيات الكريمة كما سيأتي تفسيرها في أماكنها.
ثم قال تعالى: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (4) } ينهى هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضية في تفرقهم واختلافهم، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صَفْوان، حدثني أزْهَر بن عبد الله الْهَوْزَنِي (5) عن
__________
(1)
صحيح مسلم برقم (49) من حديث أبي موسى الأشعري، قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "وهم الحافظ ابن كثير وهما شديدا، فحديث: "من رأى منكم منكرا" هو حديث أبي موسى".
(2)
في أ: "أن رسول الله".
(3)
المسند (5/388) وسنن الترمذي برقم (2169).
(4)
زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(5)
في جـ، ر: "الهوري"، وفي هـ ومسند الإمام أحمد (4/102): "الهوزي". قال أبو المغيرة في موضع آخر: الحرازي" والله أعلم بالصواب.
(2/91)
أبي عامر عبد الله بن لُحَيٍّ (1) قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى [صلاة] (2) الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أهْلَ الْكَتَابَيْنِ افْتَرَقُوا في دِينِهِمْ عَلَى ثنتيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وإنَّ هذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً -يعني الأهواء-كُلُّهَا فِي النَّار إلا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارى بِهِمْ تِلْكَ الأهْواء، كَمَا يَتَجَارى الكَلبُ بصَاحِبِهِ، لا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إلا دَخَلَهُ. واللهِ -يَا مَعْشَر العَربِ-لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جاء بِهِ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم لَغَيْرُكم (3) مِن النَّاسِ أحْرَى ألا يَقُومَ بِهِ".
وهكذا رواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى، كلاهما عن أبي المغيرة -واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي-به، وقد رُوي هذا الحديث من طرق (4) .
وقوله تعالى: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } يعني: يوم القيامة، حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسودّ وجوه أهل البِدْعَة والفرقة، قاله ابن عباس، رضي الله عنهما (5) .
{
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } قال الحسن البصري: وهم المنافقون: { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } وهذا الوصف يَعُمّ كل كافر.
{
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يعني: الجنة، ماكثون فيها أبدا لا يبغون عنها حوَلا. وقد قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن رَبِيع -وهو ابن صَبِيح (6) -وحَمَّاد بن سلمة، عن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على دَرَج دمشق، فقال أبو أمامة: كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خَيْرُ قتلى من قتلوه، ثم قرأ: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } إلى آخر الآية. قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا -حتى عَدّ سبعا-ما حَدّثتكموه.
ثم قال: هذا حديث حسن: وقد رواه ابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب، وأخرجه أحمد في مسنده، عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أبي غالب، بنحوه (7) . وقد روى ابن مَرْدُويَه عند تفسير هذه الآية، عن أبي ذر، حديثًا مطولا غريبا عجيبا جدا.
ثم قال [تعالى] (8) { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ } أي: هذه آيات الله وحُجَجُه وبيناته { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } يا محمد { بِالْحَقِّ } أي: نكشف (9) ما الأمر عليه في الدنيا والآخرة.
{
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ } أي: ليس بظالم لهم بل هو الحَكَم العدل الذي لا يجور؛ لأنه القادر
__________
(1)
في ر: "لجي".
(2)
زيادة من أ، و.
(3)
في جـ: "فغيركم".
(4)
المسند (4/102) وسنن أبي داود برقم (4597).
(5)
في ر: "عنه".
(6)
في ر: "صبح".
(7)
سنن الترمذي برقم (3000) وسنن ابن ماجة برقم (176).
(8)
زيادة من أ، و.
(9)
في جـ: "ينكشف".
(2/92)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
على كل شيء، العالم بكل شيء، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحدا من خلقه؛ ولهذا قال: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي: الجميع ملْك له وعبيد له. { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي: هو المتصرف في الدنيا والآخرة، الحاكم في الدنيا والآخرة.
{
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) }
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } .
قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، عن سفيان، عن مَيْسَرة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال: خَيْرَ الناس للناس، تأتون (1) بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام (2) .
وهكذا قال ابن عباس، ومُجاهد، وعِكْرِمة، وعَطاء، والربيع بن أنس، وعطية العَوْفيّ: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } يعني: خَيْرَ الناس للناس.
والمعنى: أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس؛ ولهذا قال: { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ (3) بِاللَّهِ }
قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا شريك، عن سِماك، عن عبد الله بن عُمَيرة عن زوج [ذُرّةَ] (4) بنت أبي لَهَب، [عن درة بنت أبي لهب] (5) قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أيّ الناس خير؟ فقال: "خَيْرُ النَّاسِ أقْرَؤهُمْ وأتقاهم للهِ، وآمَرُهُمْ بِالمعروفِ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ" (6) .
ورواه أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث سماك، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس في قوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة (7) .
__________
(1)
في جـ، ر، أ، و: "يأتون".
(2)
صحيح البخاري برقم (4557).
(3)
في ر: "يؤمنون".
(4)
زيادة من جـ، ر، أ، والمسند.
(5)
زيادة من جـ، ر، أ، والمسند.
(6)
المسند (6/432).
(7)
المسند (1/319) والنسائي في السنن الكبرى (11072) والمستدرك (2/294) وقال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.
(2/93)
والصحيح أن هذه الآية عامةٌ في جميع الأمة، كل قَرْن بحسبه، وخير قرونهم الذين بُعثَ فيهم (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي: خيارا { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] (2) } الآية.
وفي مسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، من رواية حكيم بن مُعَاوية بن حَيْدَة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أنْتُمْ خَيْرُهَا، وأنْتُمْ أكْرَمُ عَلَى اللهِ عزَّ وجَلَّ" (3) .
وهو حديث مشهور، وقد حَسَّنه الترمذي. ويروى من حديث معاذ بن جبل، وأبي سعيد [الخدري] (4) نحوه.
وإنما حازت هذه الأمة قَصَبَ السَّبْق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم (5) فإنه أشرفُ خلق الله أكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يُعْطه نبيًّا قبله ولا رسولا من الرسل. فالعمل [على] (6) منهاجه وسبيله، يقوم القليلُ منه ما لا يقوم العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامه، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرحمن، حدثنا ابن زُهَير، عن عبد الله -يعني ابن محمد بن عقيل-عن محمد بن علي، وهو ابن الحنفية، أنه سمع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ". فقلنا: يا رسول الله، ما هو؟ قال : " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ". تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناده حسن (7) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو العلاء الحسن بن سَوَّار، حدثنا لَيْث، عن معاوية عن بن أبي حُلَيْس يزيد بن مَيْسَرَةَ قال: سمعت أم الدرداء، رضي الله عنها، تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها، يقول (8) إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا عِيسَى، إنِّي بَاعِثٌ بَعْدَكَ أُمَّةً، إنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا وشَكَرُوا، وإنْ أصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ". قال: يَا رَبِّ، كَيْفَ هَذَا لهُمْ، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ؟. قال: "أُعْطِيهِمْ مِن حِلْمِي وعلمي" (9) .
__________
(1)
في أ: "الذي بعث فيه".
(2)
زيادة من جـ، ر، أ، و.
(3)
المسند (4/447) وسنن الترمذي برقم (3001) وسنن ابن ماجة برقم (4287) والمستدرك (4/84).
(4)
زيادة من جـ.
(5)
في و: "صلوات الله وسلامه عليه".
(6)
زيادة من جـ، ر.
(7)
المسند (1/98) وقال الهيثمي في المجمع (1/260): "فيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيئ الحفظ. وقال الترمذي: صدوق وقد تكلم فيه بعض العلماء من قبل حفظه، وسمعت محمد البخاري يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل. قلت: فالحديث حسن".
(8)
في ر: "تقول".
(9)
المسند (6/450).
(2/94)
وقد وردت أحاديثُ يناسب (1) ذكرُها هاهنا:
قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا المسعودي، حدثنا بُكَيْر (2) بن الأخْنَس، عن رجل، عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْر، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي ، عز وجَلَّ، فَزَادَنِي مَعَ كُل وَاحِدٍ سبعين ألفًا". فقال أبو بكر، رضي الله عنه: فرأيت أن ذلك آتٍ على أهل القرى، ومصيبٌ من حافات البوادي (3) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا هشام بن حسان، عن القاسم بنِ مهران، عن موسى بن عبيد، عن ميمون بن مهران، عن عبد الرحمن بن أبي بكر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ رَبِّي أعْطَانِي سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، بِغَيْرِ حِسَابٍ". فقال عمر: يا رسول الله، فهلا استزدته؟ فقال: "اسْتَزَدْتُهُ فَأَعْطَانِي مَعَ كُلِّ رَجُلٍ سَبْعِينَ أَلْفًا ". قال عمر: فهلا استزدته؟ قال: "قَدِ اسْتَزَدْتُهُ فأعْطَانِي هكَذَا". وفرج عبد الله بن بكر (4) بين يديه، وقال عبد الله: وبسط باعيه، وحثا (5) عبد الله، قال هشام: وهذا من الله لا يدرى ما عدده (6) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليَمان، حدثنا إسماعيل بن عَيّاش، عن ضَمْضم بن زُرْعة قال: قال شُرَيح بن عبيد: مَرِضَ ثَوْبَان بحِمْص، وعليها عبد الله بن قُرْط الأزْدِي، فلم يَعُدْه، فدخل على ثوبان رجل من الكَلاعيين عائدًا، فقال له ثوبان: [أتكتب؟ قال: نعم: فقال: اكتب، فكتب للأمير عبد الله بن قرط، "من ثوبان] (7) مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد: فإنه لو كان لموسى وعيسى، عليهما السلام، بحضرتك خَادم لعدته" ثم طوى الكتاب وقال له: أتبلغه إياه؟ فقال: نعم. فانطلقَ الرجلُ بكتابه فدفعه إلى ابن قرط، فلما رآه قام فَزِعا، فقال الناس: ما شأنه؟ أحدث أمر؟ فأتى ثوبان حتى دخل عليه فعاده، وجلس عنده ساعة ثم قام، فأخذ ثوبان بردائه وقال: اجلس حتى أحدثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ، مَعَ كُلِّ ألفٍ سَبْعُونَ ألْفًا".
تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حِمْصِيّون (8) فهو حديث صحيح (9) ولله الحمد.
طريق أخرى: قال الطبراني: حدثنا عمرو بن إسحاق بن زبْريق الحِمْصي، حدثنا محمد بن
__________
(1)
في ر: "تناسب".
(2)
في جـ: "بكر".
(3)
المسند (1/6) وقال الهيثمي في المجمع (10/410): "فيه المسعودي وقد اختلط وتابعيه لم يسم، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".
(4)
في جـ، ر، أ،: "عبد الله بن أبي بكر.
(5)
في جـ، ر: "حي".
(6)
المسند (1/197) وفي إسناده القاسم بن مهران وموسى بن عبيد وهما مجهولان، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(7)
زيادة من جـ، ر، والمسند.
(8)
في ر: "ضمضميون".
(9)
المسند (5/280).
(2/95)
إسماعيل -يعني ابن عَيَّاش-حدثنا أبي، عن ضَمْضَم بن زُرْعة، عن شُرَيح بن عبيد، عن أبي أسماء الرَحَبيّ، عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ رَبِّي، عَزَّ وجَلَّ، وَعَدَنِي مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا لا يُحَاسَبُونَ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألْفًا". هذا لعله هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرحبي، بين شريح وبين ثوبان (1) والله أعلم.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمر، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حُصَين، عن ابن مسعود قال: أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ثم غَدَوْنا إليه فقال: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأُمَمِهَا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الثَّلاثَةُ ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ النَّفَرُ ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ مُوسَى، عليه السلام، ومَعَهُ كَبْكَبَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَأَعْجَبُونِي، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ ؟ فَقِيلَ لِي: هَذَا أَخُوكَ مُوسَى، مَعَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ". قال: "قُلْتُ: فَأَيْنَ أُمَّتِي؟ فَقِيلَ : انْظُرْ عَنْ يَمِينِكَ. فَنَظَرْتُ فَإِذَا الظِّرَابُ (2) قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ فَقِيلَ لي: قَدْ رَضِيتَ؟ فَقُلْتُ (3) "رَضِيتُ يَا رَبِّ، [رَضِيتُ يَا رَبِّ ] (4) " قَالَ: "فَقِيلَ لِي: إِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ". فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "فِدَاكُمْ أَبِي وَأُمِّي إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ السَّبْعِينَ أَلْفًا فَافْعَلُوا فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الظِّرَابِ (5) فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الأفُقِ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ ثَمَّ أُناسًا يَتَهَاوَشُونَ". فَقَامَ عُكاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم.أي من السبعين، فدعا له. فقام رجل آخر فَقَالَ: ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم فَقَالَ: "قَدْ سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَة". قَالَ: ثُمَّ تَحَدَّثْنَا فَقُلْنَا: لمَنْ (6) تُرَوْنَ هؤلاء السبعين الألف؟ قوم وُلِدُوا في الإسلام لم يُشْرِكُوا بالله شيئا حتى ماتوا. فبلغ ذلك النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (7) .
هكذا رواه أحمد بهذا السَّنَد وهذا السياق، ورواه أيضا عن عبد الصمد، عن هشام، عن قتادة، بإسناده مثله، وزاد بعد قوله: "رَضِيتُ يَا رَبِّ رضيت يا رب" قال (8) رَضِيتَ؟ قُلْتُ: "نَعَمْ". قَالَ: انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ قال: "فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ ". فقال: رَضِيتَ؟ قُلْتُ: "رَضِيتُ". وهذا إسناد صحيح من هذا الوجه، تفرد به أحمد ولم يخرجوه (9) .
حديث آخر: قال أحمد بن مَنِيع: حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز، حدثنا حَمّاد، عن عاصم، عن
__________
(1)
المعجم الكبير (2/92) ورواه أيضا في مسند الشاميين رقم (1682).
(2)
في جـ، ر: "الضراب" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه من المسند (1/401).
(3)
في جـ، ر: "قلت".
(4)
زيادة من ر، أ، والمسند.
(5)
في ر: "الضراب" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه من المسند (1/401).
(6)
في جـ، ر، أ، و: "من".
(7)
المسند (1/401).
(8)
في جـ: "فقال".
(9)
المسند (1/420).
(2/96)
زر، عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ بِالْمَوْسِمِ فَرَاثَتْ (1) عَلَيَّ أُمَّتِي، ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ فَأَعْجَبَتْنِي كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئاتُهُمْ ، قَدْ مَلَؤوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ" ، فَقَالَ: أَرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقُلْتُ: "نَعَمْ". قَالَ: فَإِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ". فَقَامَ عُكاشَةُ فَقَالَ: يَا رسول اللَّه، ادعُ اللَّه أن يجعلني منهم فقال:"أنْتَ مِنْهُمْ" فقام رجل آخر فقال: [ادع الله أن يجعلني منهم فقال] (2) سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَةُ". رواه الحافظ الضِّياء المقْدِسيّ، قال: هذا عندي على شرط مسلم (3) .
حديث آخر: قال الطبراني: حدثنا محمد بن محمد الجُذُوعيّ القاضي، حدثنا عُقْبة بن مكْرم. حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ عن هشام بنِ حسان عن محمد بن سِيرين، عن عِمْران بن حُصَين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَدْخُل (4) الجَنَّة مِنْ أمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَاب وَلا عَذَابٍ". قيل: من هم؟ قال: "هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". رواه مسلم من طريق هشام بن حسان، وعنده ذكر عكاشة (5) .
حديث آخر: ثبَتَ في الصحيحين من رواية الزُّهْرِي، عن سعيد بن الْمُسَيَّب، أن أبا هريرة حدثه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ وَهُمْ سَبْعُونَ ألفًا، تُضِيء وُجُوهُهُمْ إضَاءة الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ". فقال (6) أبو هريرة: فقام عُكَاشة بن مِحْصَن الأسدي يرفع ،نَمِرَةً عليه فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ". ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم فقال: "سَبَقَكَ بِهَا عكاشَةُ" (7) .
حديث آخر: قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو (8) غَسَّان، عن أبي حازم، عن سَهْلِ بن سَعْد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَيدخُلَنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا -أوْ سَبْعُمِائة ألفٍ-آخِذٌ بَعْضُهُمْ ببعض، حَتَّى يدخل أوَّلُهُمْ وآخِرُهُمُ الْجَنَّةَ، وَوجُوهُهُم (9) عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْرِ".
أخرجه البخاري ومسلم جميعًا، عن قُتَيْبةَ عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سَهْل به (10) .
__________
(1)
في جـ، ر، أ: "فرأيت".
(2)
زيادة من جـ.
(3)
ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2646) "موارد" وأبو يعلى في مسنده (9/233) والبزار في مسنده (4/204) كلهم من طريق حماد عن عاصم به.
(4)
في جـ: "يدخلون".
(5)
المعجم الكبير (18/183) وصحيح مسلم برقم (216).
(6)
في جـ، ر، أ، و: "قال".
(7)
صحيح البخاري برقم (6542) وصحيح مسلم برقم (216).
(8)
في جـ: "ابن".
(9)
في أ، و: "وجوههم".
(10)
المعجم الكبير (6/142) وصحيح البخاري برقم (6554) وصحيح مسلم برقم (219).
(2/97)
حديث آخر: قال مسلم بن الحجّاج في صحيحه: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حُصَيْن بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جُبَير فقال: أيُّكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحةَ؟ قلتُ: أنا. ثم قُلتُ: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدغْتُ: قال: فما صنعتَ؟ قلتُ: استرقَيْتُ. قال: فما حملك على ذلك؟ قلتُ: حديث حدَّثَنَاه الشعبي. قال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حَدَّثَنَا عن بُرَيْدَة بن الحُصَيب الأسلمي أنه قال: لا رُقْيَةَ إلا مِنْ عَيْنٍ أو حُمّة. فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابنُ عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عُرضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ، فَرَأيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ (1) والنَّبِيَّ ومَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ والنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ، إذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وقوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إلَى الأفقِ. فَنَظَرتُ، فَإذا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إلَى الأفُقِ الآخَرِ، فَإذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ ومعَهُم سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجنة بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلا عَذَابٍ". ثم نهَضَ فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلِدُوا في الإسلام فلم يُشْرِكوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟" فأخبروه، فقال: "هُمُ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ وَلا يَسْتَرقُونَ وَلا يَتَطيرونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". فقام عكاشة بن مِحصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم قال: "أنْتَ مِنْهُمْ". ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: "سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ".
وأخرجه البخاري عن أُسَيد بن زيد، عن هُشَيم وليس عنده، "لا يرقون" (2) .
حديث آخر: قال أحمد: حدثنا رَوْح بن عبادة. حدثنا ابن جُرَيج، أخبرني أبو الزُّبَيْر، أنه سمع جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثًا، وفيه: "فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا، لا يُحَاسَبُونَ ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، كأَضْوَإِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ كَذَلِكَ". وذكر بقيته، رواه مسلم من حديث رَوْح، غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
حديث آخر: قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش، عن محمد بن زياد، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وَعَدنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألفًا، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألْفًا، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ. وَثَلاثُ حَثياتٍ مِنْ حَثَيات ربِّي عزَّ وجَلَّ".
وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، به، وهذا إسناد جيد (4) .
طريق أخرى عن أبي أمامة: قال ابن أبي عاصم: حدثنا دُحَيم، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا
__________
(1)
في جـ، ر: "الرهط".
(2)
صحيح مسلم برقم (220) وصحيح البخاري برقم (5752، 3410، 5705، 6541، 6472).
(3)
المسند (3/283).
(4)
السنة لابن أبي عاصم برقم (589) والمعجم الكبير (8/129).
(2/98)
صفوان بن عَمرو، عن سليم بن عامر، عن أبي اليمان الهوزَني (1) -واسمه عامر بن عبد الله بن لُحيّ، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ". قال يزيد بن الأخنس: والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا مثل الذباب (2) الأصهب في الذباب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَإنَّ اللهَ وَعَدَنِي سَبْعِينَ ألْفًا ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألفًا، وَزَادَنِي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ". وهذا أيضًا إسناد حسن (3) .
حديث آخر: قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن خُلَيْد، حدثنا أبو تَوْبة، حدثنا معاوية (4) بن سلام، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عامر بن زيد البُكَالي أنه سمع عُتْبة بن عبْد السلمي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ، ثُمَّ يَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ لِسَبْعِينَ ألْفًا، ثم يَحْثي رَبِّي، عز وجل، بِكفيْهِ ثَلاثَ حَثَيَات". فكبر (5) عمر وقال: إن السبعين الأوَلَ يُشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر.
قال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة: لا أعلم لهذا الإسناد علة. والله أعلم (6) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام -يعني الدَّستَوائي-حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، حدثنا عطاء بن يَسَار أن رِفَاعة الجُهَنيّ حدّثه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكُدَيد -أو قال بقُدَيْد-فذكر حديثا، وفيه: ثم قال: وَعَدَنِي رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنِّي لأرْجُو ألا يَدْخُلُوهَا حَتَّى تَبوؤُوا أْنتُمْ ومَنْ صَلَحَ مِنْ أزْوَاجِكُمْ وذرياتكم مَسَاكِنَ فِي الْجَنَّةِ".
قال الضياء [المقدسي] (7) وهذا عندي على شرط مسلم (8) .
حديث آخر: قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، عن النَّضْر بن أنس، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الجنة مِنْ أُمَّتِي أرْبَعمِائَةِ ألْفٍ". قال أبو بكر: زدنا يا رسول الله. قال: والله هكذا (9) فقال عمر: حسبك يا أبا بكر. فقال أبو بكر: دعني، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا (10) فقال عمر: إن شاء الله أَدْخَل خَلْقه الجنة بكفٍّ واحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ عُمَرُ".
__________
(1)
في جـ، ر: "الهودي".
(2)
في ر: "الدنان".
(3)
السنة لابن أبي عاصم برقم (588).
(4)
في و: "أبو معاوية".
(5)
في ر: "وكبر".
(6)
المعجم الكبير (17/126، 127) ورواه الطبراني أيضا في المعجم الأوسط (1/254) بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في المجمع (10/413): "وفيه عامر بن زيد البكالي، وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه ولم يوثقه، وبقية رجاله ثقات".
(7)
زيادة من و.
(8)
المسند (4/16).
(9)
في و: "قال: وهكذا. وجمع بين يديه، قال: زدنا يا رسول الله، قال: وهكذا".
(10)
في أ: "كلنا بكف واحد".
(2/99)
هذا الحديث بهذا الإسناد انفرد (1) به عبد الرزاق (2) قاله الضياء. وقد رواه الحافظ أبو نُعيم الأصبهاني:
حدثنا محمد بن أحمد بن مَخْلَد، حدثنا إبراهيم بن الْهيْثَم البَلدِي، حدثنا سليمان بن حَرْب، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَعَدَنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي مِائَةَ ألْف". فقال أبو بكر: يا رسول الله، زدنا قال: "وهكذا" -وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك-قلت (3) يا رسول الله، زدنا. فقال عمر: إن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بِحَفْنَةٍ واحدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ عُمَرُ". هذا حديث غريب من هذا الوجه وأبو هلال اسمه: محمد بن سُلَيْم الراسبي، بصري (4) .
طريق أخرى عن أنس: قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا عبد القاهر بن السُّرِّي السلمي، حدثنا حُمَيد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا". قالوا: زدنا يا رسول الله. قال: "لِكُلِّ رَجُلٍ سَبْعُونَ ألْفًا" قالوا: زدنا -وكان (5) على كثيب -فقال: هكذا، وحثا بيده. قالوا: يا رسول الله، أبْعدَ الله من دخل النار بعد هذا، وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات، ما عدا عبد القاهر بن السري، وقد سئل عنه ابن معين، فقال: صالح (6) .
حديث آخر: روى الطبراني من حديث قتادة، عن أبي بكر بن أنس، عن أبي بكر بن عُمَير عن أبيه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي ثَلاثَمائة ألْفٍ الْجَنَّةَ". فقال عمير: يا رسول الله، زدنا. فقال هكذا بيده. فقال عمير يا رسول الله، زدنا. فقال عمر: حَسْبك، إنّ الله إنْ شاء أدخل الناس الجنة بِحفْنَةٍ -أو بِحَثْيَةٍ-واحدة. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ عُمَرُ" (7) .
حديث آخر: قال الطبراني: حدثنا أحمد بن خُلَيْد، حدثنا أبو تَوْبة، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عبد الله بن عامر، أن قيسا الكندي حَدّث أن أبا سعيد (8) الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ، ويَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ لِسَبْعِين (9) ألْفًا، ثم يَحْثِي رَبِّي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ بِكَفَّيْهِ". كذا قال قيس، فقلت لأبي سعيد: أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، بأذني، ووعاه قلبي. قال أبو سعيد: فقال -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "وَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللهُ، عز وجل، يَسْتَوْعِبُ مُهَاجِرِي أمتي، ويُوَفِّي الله بقيته مِنْ أعْرَابِنَا".
وقد روى هذا الحديث محمد بن سهل بن عسكر، عن أبي تَوْبَة الربيع بن نافع بإسناده، مثله.
__________
(1)
في جـ، ر: "تفرد".
(2)
المصنف لعبد الرزاق برقم (20556) ورواه من طريقه أحمد في المسند (3/165) وابن أبي عاصم في السنة برقم (590).
(3)
في أ: "فقال" وفي و: "قال".
(4)
الحلية لأبي نعيم (2/344) ورواه أحمد في مسنده (3/193) من طريق أبي هلال عن قتادة به.
(5)
في ر: "وكانوا".
(6)
مسند أبي يعلى (6/417).
(7)
المعجم الأوسط (1/257) وقال الهيثمي في المجمع (10/409): "رجاله ثقات".
(8)
في جـ: "سعد".
(9)
في أ، و: "لكل ألف سبعين".
(2/100)
وزاد: قال أبو سعيد: فحسب ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين (1) ألف ألْف.
حديث آخر: قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن مَرْثَد الطبراني، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عَيّاش، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زُرْعة، عن شُرَيح بن عبيد، عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمَا وَالَّذي نَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِهِ لَيُبْعَثَنَّ مِنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ مِثْلَ اللَّيْلِ الأسْوَدِ، زُمْرةٌ جَمِيعُهَا يَخْبطُونَ الأرضَ، تَقُولُ الملائِكةُ: لِمَ جَاءَ مَعَ مُحَمَّدٍ أكْثَرُ مِمَّا جَاءَ مَعَ الأنْبِيَاءِ؟". وهذا إسناد حسن (2) .
نوع آخر من الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها بكرامتها (3) على الله، وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا ابن جُرَيج، أخبرني أبو الزبير، عن جابر (4) أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنِّي لأرْجُو أنْ يَكُونَ مَنْ يَتَّبِعُنِي مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُبْعَ الْجَنَّةِ". قال: فكبَّرنا. ثم قال: "أَرْجُو أنْ يَكُونُوا (5) ثلثَ النَّاسِ". قال: فكبرنا. ثم قال: "أَرْجُو أنْ تَكُونُوا الشَّطْرَ". وهكذا رواه عن رَوْح، عن ابن جُرَيج، به. وهو على شرط مسلم (6) .
وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، عن عَمْرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنِّةِ؟" فكبرنا. ثم قال: "أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلَ الْجَنَّةِ؟" فكبرنا. ثم قال: "إنِّي لأرْجُو أنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة" (7) .
طريق أخرى عن ابن مسعود: قال الطبراني: حدثنا أحمد بن القاسم بن مُساور، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني الحارث بن حَصِيرة، حدثني القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْتُمْ وَرُبْعُ الْجَنَّةِ لَكُمْ ولِسَائر الناس ثلاثة أرْبَاعِهَا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "كَيْفَ أَنْتُمْ وثُلُثُهَا؟" قالوا: ذاك أكثر. قال: "كَيْفَ أَنْتَمْ والشَّطْرُ لَكُمْ؟" قالوا: ذاك أكثر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهْلُ الْجَنّةِ عِشْرُونَ وَمَائةُ صَفٍّ، لَكُمْ مِنْهَا (8) ثَمَانُونَ صَفًا".
قال الطبراني: تفرد به الحارث بن حَصيرة (9) .
__________
(1)
في أ: "سبعمائة"، وفي و: "تسعمائة".
(2)
المعجم الكبير (3/297) وقال الهيثمي في المجمع (10/404): "وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف".
(3)
في أ، و: "وكرامتها".
(4)
في و: "أنه سمع جابرا".
(5)
في جـ: "تكونوا".
(6)
قال الهيثمي في المجمع (10/402): "رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار رجال الصحيح وكذا أحد أسانيد أحمد".
(7)
صحيح البخاري برقم (6528، 6642) وصحيح مسلم برقم (221).
(8)
في أ: "فيها".
(9)
المعجم الكبير (10/208) ورواه أحمد في مسنده (1/453) من طريق عفان عن عبد الواحد بن زياد به. قال الهيثمي في المجمع (10/403): "رجالهم رجال الصحيح غير الحارث بن حصيرة وقد وثق".
(2/101)
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا ضرار بن مُرَّة أبو سَنان الشيباني، عن محارب بن دِثَار، عن ابن بُرَيْدة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، هَذِه الأمَّةُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُون صَفا".
وكذلك (1) رواه عن عفان، عن عبد العزيز، به. وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان، به وقال: هذا حديث حسن. ورواه ابن ماجة من حديث سفيان الثوري، عن عَلْقَمة بن مَرْثَد، عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه، به (2) .
حديث آخر: رَوَى الطبراني من حديث سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا خالد بن يزيد البَجَلي، حدثنا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّتِي".
تفرد به خالد بن يزيد البَجَلي، وقد تكلم فيه ابن عَدِيّ (3) .
حديث آخر: قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا موسى بن غيلان، حدثنا هاشم (4) بن مَخْلَد، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن أبي عمرو، عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة: 38 ، 39 ] } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمْ رُبْعُ أهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ ثُلُثَا أَهْلِ الْجَنَّةِ" (5) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولا الْجَنَّةَ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا لِلْيَهُوَدِ [و] (6) للنصارى بَعْدَ غَدٍ".
رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا بنحوه (7) ورواه مسلم أيضا عن طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ". وذكر تمام الحديث (8) .
حديث آخر: روى الدارقطني في الأفراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الزهري،
__________
(1)
في أ: "وكذا".
(2)
المسند (5/355، 347) وسنن الترمذي برقم (2546) وسنن ابن ماجة برقم (4289).
(3)
المعجم الكبير (10/348) ورواه ابن عدي في الكامل (3/13) وقال: "أحاديثه كلها لا يتابع عليها لا إسنادا ولا متنا، ولم أر للمتقدمين فيه قولا، بل غفلوا عنه وهو عندي ضعيف".
(4)
في جـ: "هشام".
(5)
ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق الطبراني به (7/101) ونقل عن الطبراني قوله: "تفرد برفعه ابن المبارك عن الثوري. وأبو عمرو اسمه محمد والد أسباط بن محمد الكوفي القرشي".
(6)
زيادة من جـ، ر.
(7)
صحيح البخاري برقم (896، 3486، 3487) ومسلم برقم (855).
(8)
صحيح مسلم برقم (855).
(2/102)
عن سعيد بن المسيَّب، عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الأنْبِيَاءِ كُلُّهُمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَى الأمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا (1) أمتِي".
ثم قال: تفرد به ابن عقيل، عن الزهري، ولم يرو عنه سواه. وتفرد به زُهير بن محمد، عن ابن عقيل، وتفرد به عَمْرو بن أبي سلمة، عن زهير.
وقد رواه أبو أحمد بن عَدِيّ الحافظ فقال: حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق، حدثنا أبو بكر الأعين محمد بن أبي عَتَّاب، حدثنا أبو حفص التِّنيسي -يعني عمرو بن أبي سلمة-حدثنا صدقة الدمشقي. عن زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الزهري.
ورواه الثَّعْلَبي: حدثنا أبو عباس المَخْلَدي، أخبرنا أبو نُعْم عبد الملك بن محمد، أخبرنا أحمد بن عيسى التنيسي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن عبد الله، عن زهير بن محمد، عن ابن عقيل، به (2) .
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم، كما قال قتادة: بَلَغَنَا أن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (3) في حجة حجّها رأى من الناس سُرْعة (4) فقرأ هذه الآية: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ثم قال: من سَرَّه أن يكون من تلك الأمة فَلْيؤدّ شَرْط الله فيها. رواه ابن جرير.
ومن (5) لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] (6) [المائدة:79] } ولهذا لما مَدح [الله] (7) تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال: { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ } أي: بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } أي: قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان.
ثم قال تعالى مخبرًا عباده المؤمنين ومُبشِّرًا لهم أن النصر والظَّفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين، فقال: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } وهكذا وقع، فإنهم يوم خَيْبَر أذلّهم الله وأرْغَم آنافهم (8) وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قَيْنُقَاع وبني النَّضِير وبني قُرَيْظَة (9) كلهم أذلهم الله، وكذلك النصارى بالشام كَسَرهم الصحابة في غير ما موطن، وسَلَبوهم مُلْك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تزال عِصَابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل
__________
(1)
في جـ: "يدخلها".
(2)
أطراف الغرائب والأفراد (ق21) لابن القيسراني، والكامل لابن عدي (4/129) ورواه البغوي في تفسيره (2/91) من طريق الثعلبي. ونقل ابن أبي حاتم في العلل (2/227) عن أبي زرعة: "هذا الحديث منكر لا أدري كيف هو".
(3)
زيادة من جـ، أ.
(4)
في جـ، ر: "ترعل".
(5)
في أ: "من".
(6)
زيادة من جـ، أ، و، وفي هـ: "الآية"
(7)
زيادة من جـ، ر، أ.
(8)
في و: "أنوفهم".
(9)
في ر: "بنو النضير وبنو قريظة".
(2/103)
عيسى ابن مريم [عليه السلام] (1) وهم كذلك، ويحكم، عليه السلام (2) بشرع محمد (3) عليه أفضل الصلاة والسلام (4) فيَكْسر الصَّلِيب، ويقتل الخنزير، ويَضَع الجزْية، ولا يقبل إلا الإسلام.
ثم قال تعالى: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي: ألزمهم الله الذلة (5) والصَّغَار أينما كانوا فلا يأمنون { إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ } أي: بذمة من الله، وهو عَقْد الذمة لهم وضَرْب الجزية عليهم، وإلزامهم أحكام الملة { وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي: أمان منهم ولهم، كما في المُهَادَن والمعاهَد والأسير إذا أمَّنَه واحد (6) من المسلمين ولو امرأة، وكذَا عَبْد، على أحد قولي العلماء.
قال ابن عباس: { إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } أي: بعهد من الله وعهد من الناس، [و] (7) هكذا قال مُجاهد، وعِكْرِمة، وعَطَاء، والضَّحَّاك، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، والرَّبِيع بن أنس.
وقوله: { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي: أُلزموا فالتزَمُوا بغضب من الله، وهم يستحقونه { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ } أي: أُلزِموها (8) قَدرًا وشَرْعًا. ولهذا قال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ (9) حَقٍّ } أي: وإنما حملهم على ذلك الكبْر والبَغْي وَالْحسَد، فأعْقَبَهم ذلك الذِّلة والصَّغَار والمسكنة أبدا، متصلا بذلة الآخرة، ثم قال تعالى: { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } أي: إنما حَمَلهم على الكفر بآيات الله وقَتْل رُسُل الله وقُيِّضوا لذلك أنّهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله، عز وجل، والغشيان لمعاصي الله، والاعتداء في شرع الله، فَعِياذًا بالله من ذلك، والله المستعان.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حَبِيب حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا شعبة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي مَعْمَر الأزدي، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبيّ، ثم يقوم سُوق بَقْلهم في آخر النهار.
__________
(1)
زيادة من أ.
(2)
في و: "ويحكم بملة الإسلام".
(3)
في جـ: "عيسى ابن مريم عليه السلام ويحكم بشرع محمد"، وفي ر: "عيسى ابن مريم وهو كذلك ويحكم عليه السلام بشرع محمد".
(4)
في جـ، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(5)
في و: "المذلة".
(6)
في جـ، ر، أ، و: "أحد".
(7)
زيادة من و.
(8)
في و: "ألزموا بها".
(9)
في و: "بذل".
(2/104)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
{
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) }
(2/105)
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
=========
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) /المطففين
===========

الأنبياء - تفسير ابن كثير
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) } .
قال ابن إسحاق، عن مُرّة، عن ابن مسعود: كان ذلك الحرث كرمًا قد نَبَتَتْ عناقيده. وكذا قال شُرَيْح.
قال ابن عباس: النَّفْشُ: الرعي.
وقال شُرَيح، والزهري، وقتادة: النَّفْشُ بالليل. زاد قتادة: والهَمْلُ بالنهار.
قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب وهارون بن إدريسَ الأصم قالا حدثنا المحاربي، عن أشعت، عن أبي إسحاق، عن مُرّة، عن ابن مسعود في قوله: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } قال: كرم قد أنبتت عناقيده، فأفسدته. قال: فقضى داود بالغَنَم لصاحب الكَرْم، فقال سليمان: غيرُ هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيُصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } .
وهكذا روى العَوْفي، عن ابن عباس.
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، حدثنا (1) خليفة، عن ابن عباس قال: فحكم (2) داود بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرِّعاء معهم الكلاب، فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم؟
فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيتُ بغير هذا! فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم؟ قال (3) أدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ويبذُر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثلَ حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرثَ وردوا الغنم إلى أصحابها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا خُدَيْج، عن أبي إسحاق، عن مُرَّة، عن مسروق قال: الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت فيه الغنم، فلم تَدَع فيه ورقة ولا عنقودًا من عنب إلا أكلته، فأتوا داود، فأعطاهم رقابها، فقال سليمان: لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها (4) أهلُ الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه (5) حتى يعود كالذي كان ليلة نَفَشت فيه الغنم، ثم يُعطَى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم.
__________
(1)
في ف: "حدثني".
(2)
في ف، أ: "قضى".
(3)
في ف: "فقال" .
(4)
في ف: "فتعطى".
(5)
في ف: "فيعمره ويصلحوه".
(5/355)
وهكذا قال شُرَيح، ومُرَّة، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد وغير واحد.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي زياد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا إسماعيل، عن عامر، قال: جاء رجلان إلى شُرَيح، فقال أحدهما: إن شاة هذا قطعت غزلا لي، فقال شريح: نهارًا أم ليلا؟ فإن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشاة، وإن كان ليلا ضَمِن، ثم قرأ: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ } الآية.
وهذا الذي قاله شُرَيح شبيه بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث الليث بن سعد، عن الزهري، عن حَرام بن مُحَيْصة (1) ؛ أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطًا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها (2) . وقد عُلِّل هذا الحديث، وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب "الأحكام" وبالله التوفيق.
وقوله: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن حميد؛ أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى، قال (3) ما يبكيك؟ قال (4) يا أبا سعيد، بلغني أن القضاة: رجل اجتهد فأخطأ، فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان، عليهما السلام، والأنبياء حكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود. ثم قال -يعني: الحسن-: إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثًا: لا يشترون به ثمنًا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى، ولا يخشون فيه أحدًا، ثم تلا { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (5) ] } [ص:26] وقال: { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة:44] ، وقال { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } [ المائدة:44] .
قلت: أما الأنبياء، عليهم السلام، فكلهم معصومون مُؤيَّدون من الله عز وجل. وهذا مما لا خلاف (6) فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري، عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران،
__________
(1)
في ف: "عن حرام عن الزهري بن محيصة".
(2)
المسند (5/435) وسنن أبي داود برقم (3570) وسنن ابن ماجه برقم (2332).
تنبيه: هذا الطريق إنما هو طريق ابن ماجه، أما أحمد فرواه عن مالك وسفيان ومعمر عن الزهري، وأما أبو داود فرواه عن معمر والأوزعي عن الزهري.
(3)
في ف، أ: "فقال".
(4)
في ف، أ: "فقال"
(5)
زيادة من ف، أ.
(6)
في ف: "ما لا اختلاف فيه".
(5/356)
وإذا اجتهد فأخطأ (1) فله أجر" (2) فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه "إياس" من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار، والله أعلم.
وفي السنن: "القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، وقاضيان في النار: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار (3) .
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده، حيث قال: حدثنا علي بن حَفْص، أخبرنا وَرْقاء عن أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابنان لهما، جاء (4) الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا. فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها، لا تَشُقه، فقضى به للصغرى" (5) .
وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما (6) وبوّب عليه النسائي في كتاب القضاء:(باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق) (7) .
وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة "سليمان عليه السلام" من تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشر، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس -فذكر قصة مطولة (8) ملخصها-: أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم، فامتنعت على (9) كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عليها عند داود، عليه السلام، أنها مَكَّنت من نفسها كلبًا لها، قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها. فلما كان عشية ذلك اليوم، جلس سليمان، واجتمع معه وِلْدانٌ، مثله، فانتصب حاكمًا وتزيا أربعة منهم بزيّ أولئك، وآخر بزيّ المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكَنت من نفسها كلبًا، فقال سليمان: فرقوا بينهم. فقال لأولهم: ما كان لون الكلب؟ فقال: أسود. فعزله، واستدعى الآخر فسأله عن لونه، فقال: أحمر. وقال الآخر: أغبش. وقال الآخر: أبيض. فأمر بقتلهم، فحكي ذلك لداود، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة، فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب، فاختلفوا عليه، فأمر بقتلهم (10) .
__________
(1)
في ف: "وأخطأ".
(2)
صحيح البخاري برقم (7352) .
(3)
سنن أبي داود برقم (3573) وسنن النسائي الكبرى برقم (5922) وسنن ابن ماجه برقم (2315)
(4)
في ف: "إذ جاء".
(5)
المسند (2/322)
(6)
في ف: "صحيحيهما".
(7)
صحيح البخاري برقم (6769) وصحيح مسلم برقم (1720) وسنن النسائي الكبرى برقم (5958) والباب فيه "التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين له الحق".
(8)
في ف: "طويلة".
(9)
في أ: "عن".
(10)
تاريخ دمشق (7/565 "المخطوط")
(5/357)
وقوله: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا تَرَنَّم به تقف الطير في الهواء، فتجاوبه، وتَرد عليه الجبال تأويبًا؛ ولهذا لمَّا مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري، وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيب [جدًا] (1) . فوقف واستمع لقراءته، وقال: "لقد أوتي هذا مزامير آل داود". قال يا رسول الله، لو علمت أنك تسمع (2) لحبرته لك تحبيرًا (3) .
وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صَنْج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه، ومع هذا قال: لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود.
وقوله: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ (4) مِنْ بَأْسِكُمْ } يعني صنعة الدروع.
قال قتادة: إنما كانت الدروع قبله صفائح، وهو أول من سردها حلَقًا. كما قال تعالى: { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } [سبأ:10، 11] أي: لا توسع الحلقة فتقلق (5) المسمار، ولا تغلظ المسمار فتَقَدّ الحَلْقة؛ ولهذا قال: { لِيُحْصِنَكُمْ (6) مِنْ بَأْسِكُمْ } يعني: في القتال، { فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } أي: نعم الله عليكم، لما ألهم به عبده داود، فعلمه ذلك من أجلكم.
وقوله: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً } أي: وسخرنا لسليمان الريح العاصفة، { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني أرض الشام، { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } وذلك أنه كان له بساط من خشب، يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة، والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته، ثم تحمله فترفعه وتسير به، وتظله الطير من الحر، إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل وتوضع آلاته وخشبه (7) ، قال الله تعالى: { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } [ص:36] ، وقال { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ :12] .
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن سفيان بن عيينة، عن أبي سِنَان، عن سعيد بن جبير قال: كان يُوضَع لسليمان ستمائة ألف كرسي، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم (8) .
وقال عبد الله بن عُبَيْد بن عمير: كان سليمان يأمر الريح، فتجتَمع كالطَّود العظيم، كالجبل، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها، ثم يدعو بفَرَس من ذوات الأجنحة، فترتفع (9) حتى تصعد (10) على فراشه، ثم يأمر الريح فترتفع به كُل شَرَف دون السماء، وهو مطأطئ رأسه، ما يلتفت يمينا ولا شمالا تعظيمًا لله عز وجل، وشكرًا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله
__________
(1)
زيادة من ف، أ.
(2)
في ف: "تستمع".
(3)
سبق الحديث في فضائل القرآن.
(4)
في ف، أ: "لتحصنكم".
(5)
في ف: "فتفلق".
(6)
في ف، أ: "لتحصنكم".
(7)
في أ: "وحشمه"
(8)
في أ: "فتحملهم عليه السلام".
(9)
في ف، أ: "فيرتفع".
(10)
في ف، أ: "يصعد".
(5/358)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
تعالى (1) حتى تضعه (2) . الريح حيث شاء أن تضعه (3)
وقوله: { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ } أي: في الماء يستخرجون اللآلئ [وغير ذلك. { وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ } أي: غير ذلك، كما قال تعالى: { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * ] (4) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ } . [ص: 37، 38] .
وقوله: { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } (5) أي: يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه، بل هو مُحَكَّم (6) فيهم، إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء؛ ولهذا قال: { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ }
{
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) } .
يذكر تعالى عن أيوب، عليه السلام، ما كان أصابه من البلاء، في ماله وولده وجسده (7) ، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثيرة، ومنازل مرضية. فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده -يقال: بالجذام في سائر بدنه، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس، وأفردَ في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد (8) يحنو عليه سوى زوجته، كانت تقوم بأمره (9) ، ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل" (10) وفي الحديث الآخر: "يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه" (11) .
وقد كان نبي الله أيوب، عليه السلام، غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك.
وقال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب، عليه السلام، بذهاب الأهل والمال والولد، ولم له يبق شيء، أحسن الذكر، ثم قال: أحمدك رب الأرباب، الذي أحسنت إلي، أعطيتني المال والولد، فلم يبق من قلبي شعبة، إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني، وفرَّغت قلبي، ليس يحول بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت، حسدني. قال: فلقي إبليس من ذلك منكرًا.
قال: وقال أيوب، عليه السلام: يا رب، إنك أعطيتني المال والولد، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته، وأنت تعلم ذلك. وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول لنفسي:
__________
(1)
في ف، أ: "عز وجل".
(2)
في ف: "يضعه".
(3)
في ف، أ: "حيث يشاء أن يضعه".
(4)
زيادة من ف، أ.
(5)
في ف: "له".
(6)
في ف، أ: "يحكم".
(7)
في ف: "وجسده وولده".
(8)
في ف: "أحد من الناس".
(9)
في ف: "بأوده".
(10)
رواه أحمد في المسند (1/172) والترمذي في السنن برقم (2398) وابن ماجه في السنن برقم (4023) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
(11)
هو جزء من الحديث المتقدم، والله أعلم.
(5/359)
يا نفس، إنك لم تخلقي لوطء الفرش (1) ، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم.
وقد ذكر عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة، ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه، وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين، وفيها غرابة تركناها لحال الطول (2) .
وقد روى أنه مكث في البلاء مدة طويلة، ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء، فقال الحسن وقتادة، ابتلي أيوب، عليه السلام، سبع سنين وأشهرًا، ملقى على كُنَاسَة بني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده ففرج الله عنه، وعَظَمَّ له الأجر، وأحسن عليه الثناء.
وقال وهب بن منبه: مكث في البلاء ثلاث سنين، لا يزيد ولا ينقص.
وقال السدي: تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام، فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالزاد يكون فيه، فقالت له امرأته لما طال وجعه: يا أيوب، لو دعوت ربك (3) يفرج عنك؟ فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحًا، فهل (4) قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟ فجَزَعت من ذلك فخرجت، فكانت تعمل للناس بأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه، وإن إبليس انطلق إلى رجلين من فلسطين كانا صديقين له وأخوين، فأتاهما فقال: أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا، فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما، فإنه إن شرب منه بَرَأ. فأتياه، فلما نظرا إليه بكيا، فقال: من أنتما؟ فقالا (5) : نحن فلان وفلان! فرحَّب بهما وقال: مرحبًا بمن لا يجفوني عند البلاء، فقالا يا أيوب، لعلك كنت تُسر شيئًا وتظهر غيره، فلذلك ابتلاك الله؟ فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: هو يعلم، ما أسررت شيئًا أظهرت غيره. ولكن ربي ابتلاني لينظر أأصبر أم أجزع، فقالا له: يا أيوب، اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه بَرَأت. قال: فغضب وقال جاءكما الخبيث فأمركما بهذا؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما عليّ حرام. فقاما من عنده، وخرجت امرأته تعمل للناس فخبزت لأهل بيت لهم صبي، فجعلت لهم قرصًا (6) ، وكان ابنهم نائمًا، فكرهوا أن يوقظوه، فوهبوه لها.
فأتت به إلى أيوب، فأنكره وقال: ما كنت تأتيني بهذا، فما بالك اليوم؟ فأخبرته الخبر. قال: فلعل الصبي قد استيقظ، فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله. [فانطلقي به إليه. فأقبلت حتى بلغت درجة القوم، فنطحتها شاة لهم، فقالت: تعس أيوب الخطاء! فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص، ويبكي على أهله] (7) ، لا يقبل منهم شيئًا غيره، فقالت: رحم الله أيوب فدفعت القرص إليه ورجعت. ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب، فقال لها: إن زوجك قد طال سُقمه، فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابًا فليذبحه باسم صنم بني فلان فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك. فقالت ذلك لأيوب، فقال: قد أتاك الخبيث. لله عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدة. فخرجت تسعى عليه، فحظر عنها الرزق، فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها، فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب
__________
(1)
في ف: "الفراش".
(2)
تفسير الطبري (1/42).
(3)
في ف، أ: "الله".
(4)
في أ: "فهو".
(5)
في ف، أ: "قالا".
(6)
في ف، أ: "قرصة".
(7)
زيادة من ف، أ.
(5/360)
الجوع حلقت من شعرها قرنًا فباعته من صبية من بنات الأشراف، فأعطوها طعامًا طيبًا كثيرًا فأتت به أيوب، فلما رآه أنكره وقال: من أين لك هذا؟ قالت: عملت لأناس فأطعموني. فأكل منه، فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضًا قرنًا فباعته من تلك الجارية، فأعطوها من ذلك الطعام، فأتت به أيوب، فقال: والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو؟ فوضعت خمارها، فلما رأى رأسها محلوقًا جزع جزعًا شديدًا، فعند ذلك دعا ربه عز وجل: { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا أبو عمران الجوني، عن نَوْف البِكَالي؛ أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له: "سوط" (1) ، قال: وكانت امرأة أيوب تقول: "ادع الله فيشفيك" ، فجعل لا يدعو، حتى مر به نفر من بني إسرائيل، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه، فعند ذلك قال: "رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين".
وحدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب، عليه السلام، أخوان فجاءا يومًا، فلم يستطيعا أن يدنوا منه، من ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدهما للآخر: لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا؟ فجزع أيوب من قولهما جَزعا لم يجزع من شيء قط، فقال: اللهم، إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان (2) وأنا أعلم مكان جائع، فصدقني. فصدق من السماء وهما يسمعان. ثم قال: اللهم، إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، وأنا أعلم مكان عار، فَصَدقني فصدق من السماء وهما يسمعان. اللهم (3) بعزتك ثم خر ساجدًا، ثم قال (4) اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدًا حتى تكشف عني. فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعًا بنحو هذا فقال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد، عن عُقَيل، عن الزهري، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه، كانا (5) يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تَعَلَّم -والله-لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين. فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف (6) ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب، عليه السلام: ما أدري ما تقول، غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهة أن يذكرا الله إلا في حق. قال: وكان يخرج في حاجته (7) ، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، فأوحى إلى
__________
(1)
في ف، أ: "مبسوط".
(2)
في ف: "شبعانا".
(3)
في ف، أ: "ثم قال: اتللهم".
(4)
في ف: "فقال".
(5)
في ف، أ: "له".
(6)
في ف: "فكشف".
(7)
في ف: "حاجة" .
(5/361)
أيوب في مكانه: أن اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب" (1) .
رفع هذا الحديث غريب جدًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، قال: وألبسه الله حلة من الجنة، فتنحى أيوب فجلس في ناحية، وجاءت امرأته، فلم تعرفه، فقالت: يا عبد الله، أين ذهب المبتلى الذي كان هاهنا؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب، فجعلت تكلمه ساعة، فقال: ويحك! أنا أيوب! قالت: أتسخر مني يا عبد الله؟ فقال: ويحك! أنا أيوب، قد رد الله علي جسدي.
وبه قال ابن عباس: ورد عليه ماله وولده عيانا، ومثلهم معهم.
وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى أيوب: قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرب عن صاحبتك (2) قربانًا، واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.
[
وقال] (3) أيضًا: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا همام، عن قتادة، عن النضر ابن أنس، عن بَشير (4) بن نَهِيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما عافى الله أيوب، أمطر عليه جرادًا من ذهب، فجعل يأخذ بيده ويجعله في ثوبه". قال: "فقيل له: يا أيوب، أما تشبع؟ قال: يا رب، ومن يشبع من رحمتك".
أصله في الصحيحين (5) ، وسيأتي في موضع آخر.
وقوله: { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } قد تقدم عن ابن عباس أنه قال: ردوا عليه بأعيانهم. وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس أيضًا. وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد، وبه قال الحسن وقتادة.
وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النَّجْعَة، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب، وصح ذلك عنهم، فهو مما لا يصدق ولا يكذب. وقد سماها ابن عساكر في تاريخه -رحمه الله تعالى-قال: ويقال: اسمها ليا ابنة مِنَشَّا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال: ويقال: ليا بنت يعقوب، عليه السلام، زوجة أيوب كانت معه بأرض البَثَنيَّة.
وقال مجاهد: قيل له: يا أيوب، إن أهلك لك في الجنة، فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت
__________
(1)
ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2091) "موارد" من طريق حرملة بن يحيى عن ابن وهب بنحوه.
(2)
في ف: "صحابتك".
(3)
زيادة من أ.
(4)
في ف: "بشر".
(5)
ورواه الحاكم في المستدرك (2/582) من طرق عن عمرو بن مرزوق به، وسيأتي أصل الحديث في صحيح البخاري عند تفسير الآية: 42 من سورة ص.
(5/362)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
تركناهم لك في الجنة، وعوضناك مثلهم. قال: لا بل اتركهم لي في الجنة. فتُركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا.
وقال حماد بن زيد، عن أبي عمران الجَوْني، عن نَوف البِكَالي قال: أوتي أجرهم في الآخرة، وأعطي مثلهم في الدنيا. قال: فحدثت به مُطَرَّفا، فقال: ما عرفت وجهها قبل اليوم.
وهكذا روي عن قتادة، والسدي، وغير واحد من السلف، والله أعلم.
وقوله: { رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } أي: فعلنا به ذلك رحمة من الله به، { وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } أي: وجعلناه في ذلك قدوة، لئلا يظن أهل البلاء إنما فعلنا بهم ذلك (1) لهوانهم علينا، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما (2) يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك.
{
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) } .
أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، وقد تقدم ذكره في سورة مريم، وكذلك إدريس، عليه السلام (3) وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون: إنما كان رجلا صالحًا، وكان ملكًا عادلا وحكمًا مقسطًا، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم.
وقال ابن جُرَيج، عن مجاهد في قوله: { وَذَا الْكِفْلِ } قال: رجل صالح غير نبي، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فَسُمي: ذا الكفل. وكذا روَى ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أيضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عفان، حدثنا وُهَيب، حدثنا داود، عن مجاهد قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي، حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس، فقال: من يتقبل مني بثلاث: أستخلفه يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب. قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا. فقال: أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟ قال: نعم، قال: فردهم (4) ذلك اليوم، وقال مثلها في اليوم الآخر، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل وقال (5) أنا. فاستخلفه، قال: وجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان. فأعياهم ذلك (6) ، قال: دعوني (7) وإياه، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة
__________
(1)
في ف: "إنما فعل ذلك بهم".
(2)
في ف: "فيما".
(3)
انظر: تفسير الآيات: 54-57.
(4)
في ف، أ: "فيردهم".
(5)
في ف: "فقال"
(6)
في ف، أ: "ذلك الرجل" .
(7)
في أ: "دعوني أنا وإياه".
(5/363)
-
وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة-فدق الباب، فقال: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم. قال: فقام ففتح الباب، فجعل يقص عليه، فقال: إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني، وفعلوا بي وفعلوا. وجعل يُطَول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، فقال (1) : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك. فانطلق، وراح. فكان في مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ؟ فلم يره، فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس، وينتظره ولا (2) يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ قال (3) الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له (4) فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني؟ قال: إنهم أخبث قوم، إذا عرفوا (5) أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك. وإذا قمت جحدوني. قال: فانطلق، فإذا رحت فأتني. قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينتظره (6) ولا يراه، وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعن أحدًا يَقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق عليّ النوم. فلما كان تلك الساعة أتاه (7) فقال له الرجل: وراءك وراءك؟ فقال: إني قد أتيته أمس، فذكرت له أمري، فقال: لا والله لقد أمرنا ألا ندع أحدًا يقربه. فلما أعياه نظر فرأى كُوَّة في البيت، فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل، قال: فاستيقظ الرجل فقال: يا فلان، ألم آمرك؟ فقال (8) أما من قبلي والله فلم تؤتَ، فانظر من أين أتيت؟ قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت، فعرفه، فقال: أعدو الله؟ قال: نعم، أعييتني في كل شيء، ففعلت ما تَرَى لأغضبك. فسماه الله ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به (9) .
وهكذا رواه بن أبي حاتم، من حديث زهير بن إسحاق، عن داود، عن مجاهد، بمثله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن مسلم، قال: قال ابن عباس: كان قاض في بني إسرائيل، فحضره الموت، فقال: من يقوم مقامي على ألا يغضب؟ قال: فقال رجل: أنا. فسمي ذا الكفل. قال: فكان (10) ليله جميعًا يصلي، ثم يصبح صائمًا فيقضي بين الناس -قال: وله (11) ساعة يقيلها-قال: فكان كذلك، فأتاه الشيطان عند نومته، فقال له أصحابه: ما لك؟ قال: إنسان مسكين، له على رجل حق، وقد غلبني عليه. قالوا: كما أنت حتى يستيقظ -قال: وهو فوق نائم-قال: فجعل يصيح عمدا حتى يوقظه (12) ، قال: فسمع، فقال: ما لك؟ قال: إنسان مسكين، له على رجل حق. قال: اذهب فقل له يعطيك. قال: قد أبى. قال: اذهب أنت إليه. قال: فذهب، ثم جاء من الغد، فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأسًا. قال: اذهب إليه فقل له يعطيك حقك، قال: فذهب، ثم جاء من الغد حين قال، قال: فقال له أصحابه: اخرج، فعل الله بك، تجيء كل يوم حين ينام، لا
__________
(1)
في ف: "وقال".
(2)
في ف، أ: "فلا".
(3)
في ف: "فقال".
(4)
في ف: "ففتح الباب" .
(5)
في ف، أ: "اعترفوا".
(6)
في ف: "ينتظر".
(7)
في ف: "جاءه".
(8)
في ت: "قال".
(9)
تفسير الطبري (17/59).
(10)
في ف: "فقال".
(11)
في ف: "فله".
(12)
في ف: "يغضبه".
(5/364)
تدعه ينام؟. فجعل (1) يصيح: من أجل أني إنسان مسكين، لو كنت غنيا؟ قال: فسمع أيضًا، فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فضربني. قال: امش حتى أجيء معك. قال: فهو ممسك بيده، فلما رآه ذهب معه نَثَر يده منه (2) فَفَر.
وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث، ومحمد بن قيس، وابن حُجَيرة الأكبر، وغيرهم من السلف، نحو من هذه القصة، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر (3) ، أخبرنا سعيد بن بشير، حدثنا قتادة، عن أبي كنانة بن الأخنس قال: سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر: ما كان ذو الكفل بنبي، ولكن كان -يعني: في بني إسرائيل-رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة، فسمي ذا الكفل.
وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قال: "قال أبو موسى الأشعري..." فذكره منقطعا (4) ، والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد حديثًا غريبًا فقال:
حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعد (5) مولى طلحة، عن ابن عمر قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين -حتى عدّ سبع مرات-ولكن قد سمعته أكثر من ذلك، قال: "كان الكفل من بني إسرائيل، لا يتورّع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا، على أن يَطَأها، فلما قعد منها (6) مَقعدَ الرجل من امرأته، أرعِدَت (7) وبكت، فقال: ما يبكيك؟ أكْرَهْتُك؟ قالت: لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حَمَلني عليه الحاجة. قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط؟ فَنزل (8) فقال: اذهبي فالدنانير لك. ثم قال: "والله لا يَعصي الله الكفل أبدًا. فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه: قد غفر الله للكفل" (9) .
هكذا وقع في هذه الرواية "الكفل" ، من غير إضافة، فالله أعلم. وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة (10) ، وإسناده غريب، وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كان "الكفل" ، ولم يقل: "ذو الكفل" ، فلعله رجل آخر، والله أعلم.
__________
(1)
في ف، أ: "قال: فجعل".
(2)
في أ: "منه فذهب".
(3)
في ف، أ: "أبو الجماهير".
(4)
تفسير الطبري (17/60).
(5)
في ف، أ: "سعيد".
(6)
في أ: "معها".
(7)
في أ: "ارتعدت".
(8)
في ف: "ثم نزل".
(9)
المسند (2/23).
(10)
قلت: بل أخرجه الترمذي في السنن برقم (2496) من طريق عبيد بن أسباط عن أبيه به، وقال: "هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش نحو هذا ورفعوه وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعه".
(5/365)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) } .
هذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة "الصافات" وفي سورة "ن" (1) وذلك أن يونس بن مَتَّى، عليه السلام، بعثه الله إلى أهل قرية "نينوى" ، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث. فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا (2) إليه، ورغت الإبل وفُضْلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحُمْلانها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ (3) الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس:98] .
وأما يونس، عليه السلام، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فَلَجَّجت بهم، وخافوا أن يغرقوا (4) . فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا (5) أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا، فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا، قال الله تعالى: { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [ الصافات:141]، أي: وقعت عليه القرعة (6) ، فقام يونس، عليه السلام، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله، سبحانه وتعالى، من البحر الأخضر -فيما قاله ابن مسعود-حوتًا يشق البحار، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظما؛ فإن يونس ليس لك رزقا، وإنما بطنك له يكون سجنًا.
وقوله: { وَذَا النُّونِ } يعني: الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة.
وقوله: { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } : قال الضحاك: لقومه، { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [أي: نضيق عليه في بطن الحوت. يُروَى نحو هذا عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم، واختاره (7) ابن جرير، واستشهد عليه بقوله تعالى: { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [ الطلاق:7] .
وقال عطية العَوفي: { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } (8) ، أي: نقضي عليه، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، فإن العرب تقول: قدَر وقَدّر بمعنى واحد، وقال الشاعر:
__________
(1)
سورة الصافات الآيات: (139-148) ، وسورة نون (القلم) الآيات: (48-50).
(2)
في ت: "ولجؤوا".
(3)
في ت: "العذاب".
(4)
في ت، ف: "تغرق بهم".
(5)
في ت: "فأتوا".
(6)
في ف: "فوقعت القرعة عليه".
(7)
في ت: "واختارهم".
(8)
زيادة من ت، ف، أ.
(5/366)
فَلا عَائد ذَاكَ الزّمَانُ الذي مَضَى ... تباركت ما تَقْدرْ يَكُنْ، فَلَكَ الأمْرُ ...
ومنه قوله تعالى: { فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [القمر: 12]، أي: قدر.
وقوله: { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } قال ابن مسعود: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل. وكذا روي عن ابن عباس (1) ، وعمرو بن ميمون، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن كعب، والضحاك، والحسن، وقتادة.
وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمةُ حُوت في بطن حوت (2) ، في ظلمة البحر.
قال ابن مسعود، وابنُ عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوتُ في البحار يَشُقُّها، حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع (3) يونسُ تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك وهنالكَ قال: { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ }
وقال عوف: لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى: يا رب (4) ، اتخذت لك مسجدًا (5) في موضع ما اتخذه (6) أحد.
وقال سعيد بن أبي الحسن البصري: مكث في بطن الحوت أربعين يومًا. رواهما (7) ابن جبير.
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار، عمن حدثه، عن عبد الله بن رافع -مولى أم سلمة-سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أراد الله حَبْسَ يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما، فلما انتهى به إلى أسفل البحر، سمع يونس حسًا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه، وهو في بطن (8) الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر. قال: فَسَبَّح وهو في بطن الحوت، فسمع (9) الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا، إنا نسمع صوتًا ضعيفًا [بأرض غريبة] (10) قال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عملٌ صالح؟. قال: نعم". قال: "فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال الله عز وجل: (11) { وَهُوَ سَقِيمٌ } [الصافات: 145].
ورواه ابن جرير (12) ، ورواه البزار في مسنده، من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، فذكره بنحوه، ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد (13) ، وروى ابن عبد الحق من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلمَة (14) ،
__________
(1)
في ف: "ابن مسعود".
(2)
في ف، أ: "حوت آخر".
(3)
في ت، أ: "حتى يسمع" ، وفي ف: "حتى سمع".
(4)
في ت: "رب الحوت" .
(5)
في ت: "مسجد".
(6)
في ف، أ: "ما أخده".
(7)
في ت: "رواها".
(8)
في ف: "وهو ببطن".
(9)
في ف، أ: "فسمعت".
(10)
زيادة من ف، أ.
(11)
في ت: "الله تعالى".
(12)
تفسير الطبري (17/65).
(13)
مسند البزار برقم (2254) "كشف الأستار".
(14)
في ت، ف: "مسلم".
(5/367)
عن علي مرفوعًا: لا ينبغي لعبد أن يقول: " أنا (1) خير من يونس بن متى"؛ سبح لله في الظلمات (2) .
وقد روي هذا الحديث بدون هذه الزيادة، من حديث ابن عباس، وابن مسعود، وعبد الله بن جعفر، وسيأتي أسانيدها في سورة "ن" (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب، حدثنا عمي: حدثني أبو صخر: أن يزيد الرقاشي حدثه قال: سمعت أنس بن مالك -ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-أن يونس النبي، عليه السلام، حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت، قال: "اللهم، لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين". فأقبلت هذه الدعوة تحف بالعرش (4) ، فقالت الملائكة: يا رب، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة؟ فقال: أما تعرفون ذاك (5) ؟ قالوا: لا يا رب (6) ، ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يُرفَع له عَمَلٌ متقبل (7) ، ودعوة مجابة؟. [قال: نعم] (8) . قالوا: يا رب، أَوَلا (9) ترحم ما كان يصنع (10) في الرخاء فتنجيَه من البلاء؟ قال: بلى. فأمر الحوت فطرحه في العراء (11) .
وقوله: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي: أخرجناه من بطن الحوت، وتلك الظلمات، { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } أي: إذا كانوا في الشدائد ودَعَونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب في الدعاء بها عن سيد الأنبياء، قال الإمام أحمد:
حدثنا إسماعيل بن عُمَر، حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني، حدثنا إبراهيم بن محمد (12) ابن سعد، حدثني والدي محمد عن أبيه سعد، -وهو ابن أبي وقاص -قال: مررت بعثمان بن عفان، رضي الله عنه، في المسجد، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يَردُدْ عليّ السلام، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين، هل حدث في الإسلام شيء؟ مرتين، قال: لا وما ذاك؟ قلت: لا إلا أني مررتُ بعثمان (13) آنفا في المسجد، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني، ثم لم يَرْدُد (14) علي السلام. قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه، فقال: ما منعك ألا تكون رَدَدت على أخيك
__________
(1)
في ف: "أنا عند الله خير".
(2)
كذا (ابن عبد الحق) ، وأظنه تحريف عن عبد بن حميد، إلا أني لا أجزم بذلك، وقد ذكره الهندي في كنز العمال (12/476) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر في تاريخه.
(3)
كذا قال الحافظ ابن كثير، وإنما ذكره هناك من حديث ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما.
فأما حديث ابن عباس: فرواه البخاري في صحيحه برقم (3395) ومسلم في صحيحه برقم (2377).
وأما حديث عبد الله بن جعفر: فرواه أبو داود في السنن برقم (4670).
(4)
في ت: "نحو العرش" وفي ف: "تحت العرش".
(5)
في ف: "ذلك".
(6)
في ت، ف: "يا ربنا".
(7)
في ت، ف: "متقبلا".
(8)
زيادة من ف، أ.
(9)
في ت، ف، أ: "أفلا".
(10)
في ت، ف: "يصنعه".
(11)
ورواه ابن أبي الدنيات في الفرج بعد الشدة برقم (32) من طريق أحمد بن صالح عن عبد الله بن وهب به.
(12)
في ت: "محمد بن إبراهيم".
(13)
في ف ، أ: "بعثمان بن عفان رضي الله عنه".
(14)
في ت: "يرد".
(5/368)
السلام؟ قال: ما فعلتُ. قال سعد: قلتُ: بلى (1) حتى حلفَ وحلفت، قال: ثم إن عثمان ذكرَ فقال: بلى، وأستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفا وأنا أحدّث نفسي بكلمة سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تَغْشَى بصري وقلبي غشَاوة. قال سعد: فأنا أنبئك بها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا [أول دعوة] (2) ثم جاء أعرابي فشغله، حتى قَام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إليّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا؟ أبو إسحاق؟" قال: قلت: نعم، يا رسول الله. قال: "فمه؟" قلت: لا والله، إلا أنك ذكرتَ لنا أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك. قال: "نعم، دعوةُ ذي النون، إذ هو في بطن الحوت: { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } ، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له".
ورواه الترمذي، والنسائي في "اليوم والليلة"، من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد، عن أبيه، عن سعد (3) ، به (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن كَثِير بن زيد، عن المطلب بن حنطب -قال أبو خالد: أحسبه عن مصعب، يعني: ابن سعد -عن سعد (5) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا بدعاء يونس، استُجِيب (6) له". قال أبو سعيد: يريد به { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } (7) .
وقال ابن جرير: حدثني عمران بن بَكَّار الكَلاعي، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن، حدثني بِشْر بن منصور، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن مالك -وهو ابن أبي وقاص-يقول: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اسم الله الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى، دعوةُ يونس بن متى". قال: قلت (8) : يا رسول الله، هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة، إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله عز وجل: { : فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } . فهو شرط من الله لمن دعاه به" (9) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج، حدثنا داود بن المُحَبَّر بن قَحْذَم المقدسي، عن كثير بن معبد قال: سألت الحسن، قلت: يا أبا سعيد، اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى؟ قال: ابنَ أخي، أما تقرأ القرآن؟ قول الله: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا }
__________
(1)
في ف: "ويلي".
(2)
زيادة من ف، أ، والمسند.
(3)
في ت: "ابن سعيد".
(4)
المسند (1/170) وسنن الترمذي برقم (3505) وسنن النسائي الكبرى برقم (10492).
(5)
في ت: "عن سعيد".
(6)
في ت: "استجبت".
(7)
ورواه الحاكم في المستدرك (2/584) من طريق يحيى بن عبد الحميد، وابن عدي في الكامل (6/68) من طريق أبي هشام الرفاعي كلاهما عن أبي خالد الأحمر به.
(8)
في ت، ف: "فقلت".
(9)
تفسير الطبري (17/65).
(5/369)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
إلى قوله: { الْمُؤْمِنِينَ } ، ابن أخي، هذا اسم الله الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.
{
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) } .
يخبر تعالى عن عبده زكريا، حين طلب أن يَهبَه الله ولدا، يكون من بعده نبيًا. وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة "مريم" وفي سورة "آل عمران" أيضا، وهاهنا أخصر منهما؛ { إِذْ نَادَى رَبَّهُ } أي: خفية عن قومه: { رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا } أي: لا ولدَ لي ولا وارثَ يقوم بعدي في الناس، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } دعاء وثناء مناسب للمسألة.
قال الله تعالى: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } أي: امرأته.
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: كانت عاقرا لا تلد، فولدت.
وقال عبد الرحمن بن مهدي (1) ، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: كان في لسانها طول فأصلحها الله. وفي رواية: كان في خَلْقها شيء فأصلحها الله. وهكذا قال محمد بن كعب، والسدّي. والأظهر من السياق الأول.
وقوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي: في عمل القُرُبات وفعل الطاعات، { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } قال الثوري: { رَغَبًا } فيما عندنا، { وَرَهَبًا } مما عندنا، { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي مصدقين بما أنزل الله. وقال مجاهد: مؤمنين حقا. وقال أبو العالية: خائفين. وقال أبو سِنَان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب، لا يفارقه أبدًا. وعن مجاهد أيضًا { خَاشِعِينَ } أي: متواضعين. وقال الحسن، وقتادة، والضحاك: { خَاشِعِينَ } أي: متذللين لله عز وجل. وكل هذه الأقوال متقاربة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق بن (2) عبد الله القرشي، عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر، رضي الله عنه، ثم قال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وتُثنُوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } .
__________
(1)
في ت: "ابن منبه".
(2)
في ت، ف: "عن".
(5/370)
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
============
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)

المؤمنون - تفسير ابن كثير
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) } .
يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } أي: هم مع (1) إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح، مشفقون من الله خائفون منه، وجلون من مكره بهم، كما قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمنًا.
{
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } أي: يؤمنون بآياته الكونية والشرعية، كقوله تعالى إخبارًا عن مريم، عليها السلام: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } [التحريم: 12] ، أي: أيقنت أن ما كان فإنما هو عن قدر الله وقضائه، وما شرعه الله فهو إن كان أمرًا فمما يحبه ويرضاه، وإن كان نهيًا (2) فهو مما يكرهه ويأباه، وإن كان خيرًا فهو حق، كما قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ } أي: لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحدًا صمدًا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأنه لا نظير له ولا كفء له.
وقوله: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } أي: يعطون العطاء (3) وهم خائفون (4) ألا يتقبل منهم، لخوفهم (5) أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء. وهذا من باب الإشفاق والاحتياط، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا مالك بن مِغْوَل، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب، عن عائشة؛ أنها قالت: يا رسول الله، { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } ، هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: "لا يا بنت أبي بكر، يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل".
وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم، من حديث مالك بن مِغْوَل، به بنحوه (6) . وقال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم، { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } قال الترمذي: ورُوي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد، عن
__________
(1)
في ف: "في" وفي أ: "من".
(2)
في ف: "منهيا".
(3)
في ف: "العطاء فيه".
(4)
في أ: "خائفون وجلون".
(5)
في ف: "تخوفهم".
(6)
المسند (6/159) وسنن الترمذي برقم (3175).
(5/480)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا (1) .
وهكذا قال ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي، والحسن البصري في تفسير هذه الآية.
وقد قرأ آخرون هذه الآية: "والذين يأتون ما أتوا وقلوبهم وجلة" أي: يفعلون ما يفعلون وهم خائفون، وروي هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ كذلك.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا صخر بن جُوَيْرِية، حدثنا إسماعيل المكي، حدثني أبو خلف مولى بني جُمَح: أنه دخل مع عُبَيد بن عُمَيْر على (2) عائشة، رضي الله عنها، فقالت: مرحبًا بأبي عاصم، ما يمنعك أن تزورنا -أو: تُلِمّ بنا؟ -فقال: أخشى أن أمُلَّك. فقالت: ما كنت لتفعل؟ قال: جئت لأسأل (3) عن آية في كتاب الله عز وجل، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها؟ قالت: أيَّة آية؟ فقال: { الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا } أو { الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } ؟ فقالت: أيتهما (4) أحب إليك؟ فقلت: والذي نفسي بيده، لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعًا (5) -أو: الدنيا وما فيها-قالت: وما هي؟ فقلت: { الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا } فقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها، وكذلك أنزلت، ولكن الهجاء حرف (6) .
إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف.
والمعنى على القراءة الأولى -وهي قراءة الجمهور: السبعة وغيرهم-أظهر؛ لأنه قال: { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } ، فجعلهم من السابقين. ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك ألا يكونوا من السابقين، بل من المقتصدين أو المقصرين، والله تعالى أعلم.
{
وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) } .
يقول تعالى مخبرًا عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا: أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، أي: إلا ما تطيق حمله والقيام به، وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء؛ ولهذا قال: { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ } يعني: كتاب الأعمال، { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } أي: لا يبخسون من الخير شيئا، وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين.
__________
(1)
سنن الترمذي برقم (3175) .
(2)
في أ: "إلى".
(3)
في ف: "لأسألك".
(4)
في أ: "أيتها".
(5)
في ف: "جميعها".
(6)
المسند (6/95).
(5/481)
ثم قال منكرًا على الكفار والمشركين من قريش: { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي: غفلة وضلالة { مِنْ هَذَا } أي: القرآن الذي أنزله [الله تعالى] (1) على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } : قال الحكم (2) بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس: { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ } أي: سيئة من دون ذلك، يعني: الشرك، { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } قال: لا بد أن يعملوها. كذا روي عن مجاهد، والحسن، وغير واحد.
وقال آخرون: { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } أي: قد كتب عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة، لتحق عليهم كلمة العذاب. ورُوِي نَحو هذا عن مقاتل بن حيَّان والسُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهو ظاهر قوي حسن. وقد قدمنا في حديث ابن مسعود: "فوالذي لا إله غيره، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها".
وقوله: { حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } يعني: حتى إذا جاء مترفيهم -وهم السعداء المنعمون في الدنيا-عذابُ الله وبأسه ونقمته بهم { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } أي: يصرخون ويستغيثون، كما قال تعالى: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا . إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا . وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا } [المزمل: 11-13] ، وقال تعالى: { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص: 3] .
وقوله: { لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ } أي: لا نجيركم (3) مما حل بكم، سواء جأرتم أو سكتُّم، لا محيد ولا مناص ولا وَزَرَ لزم الأمر ووجب العذاب.
ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال: { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ } أي: إذا دعيتم أبيتم، وإن (4) طُلبتم امتنعتم؛ { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر: 12] .
وقوله: { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } : في تفسيره قولان، أحدهما: أن مستكبرين حال منهم حين نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه، استكبارًا عليه واحتقارًا له ولأهله، فعلى هذا الضمير في { بِهِ } فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما (5) : أنه الحرم بمكة، ذموا لأنهم كانوا يسمرون بالهُجْر (6) من الكلام.
والثاني: أنه (7) ضمير القرآن، كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام: "إنه سحر، إنه شعر، إنه كهانة" إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة.
__________
(1)
زيادة من أ.
(2)
في أ: "الحكيم".
(3)
في أ: "يجيركم".
(4)
في ف، أ: "وإذا".
(5)
في أ: "أحدها".
(6)
في أ: "الهجر".
(7)
في أ: "هو".
(5/482)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
والثالث: أنه محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة، ويضربون له الأمثال الباطلة، من أنه شاعر، أو كاهن، أو ساحر، أو كذاب، أو مجنون. وكل ذلك باطل، بل هو عبد الله ورسوله، الذي أظهره الله عليهم، وأخرجهم من (1) الحرم صاغرين أذلاء.
وقيل: المراد بقوله: { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } أي: بالبيت، يفتخرون به ويعتقدون أنهم (2) أولياؤه، وليسوا (3) بهم، كما قال النسائي في التفسير (4) من سننه:
أخبرنا أحمد بن سليمان، أخبرنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى، أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية: { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } ، فقال: مستكبرين بالبيت، يقولون: نحن أهله، { سَامِرًا } قال: يتكبرون [ويسمرون فيه، ولا] (5) يعمرونه، ويهجرونه (6) .
وقد أطنب ابن أبي حاتم هاهنا بما ذا (7) حاصله.
{
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) }
__________
(1)
في أ: "إلى".
(2)
في أ: "وتعتقدون أنكم".
(3)
في ف: "وليسم" وفي أ: "ولستم".
(4)
في ف، أ: "تفسيره".
(5)
زيادة من ف.
(6)
سنن النسائي الكبرى برقم (11351).
(7)
في أ: "هذا".
(5/483)
( معلومات الكتاب - عودة إلى القرآن - فهرس القرآن )
============
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) /فصلت 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجامع لأحكام الجنائز {ج 2 و ج 4.}في سؤال وجواب المؤلف ندا أبو أحمد

  2ـ المشروع والممنوع بعد الوفاة M إن الحمد لله تعالى نحمده     ونستعينه   ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ...